واستدلوا كذلك بما جاء عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ))، وهو حديث متكلم في سنده وجمهور أئمة الحديث على ضعفه ورده، وحسَّن بعض العلماء إسناده، ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي-?- نص على أن المأموم يحمل عنه الإمام القراءة وهذا شامل لفاتحة الكتاب وغيرها.
وأما أصحاب القول الثالث فقد استدلوا على التفريق بين الجهرية والسرية بأن النبي-?- صلى بأصحابه فارتُجَّ عليه في القراءة فقال-عليه الصلاة والسلام-: ((مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ))، قالوا فهذا يدل على أن محل الإنكار إنما هو الجهرية دون السرية، والواجب على المأموم أن يقرأ بفاتحة الكتاب في السرية؛ لأن الأصل وجوبها عليه، فهذا وجه تفريقهم بين السرية والجهرية.
قال العلامة محمد بن المختار الشنقيطي: والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بوجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم، سواءً كان في الصلاة السرية أم الجهرية. ووجه الترجيح: أن النبي-?- أمر بفاتحة الكتاب على سبيل العموم ولم يستثنِ -صلوات الله وسلامه عليه- صلاة أو مصلياً دون غيره، فدل على أن الأصل هو: وجوب قراءة فاتحة الكتاب.
* وأما الأدلة التي استدل بها على أنه لا يقرأ المأموم وراء الإمام فقد أُجيب عنه بأجوبة:
الدليل الأول: وهو قوله-تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} أن هذه الآية الكريمة عامة، وحديثنا الذي أمر بفاتحة الكتاب في الصلاة خاص، والقاعدة في الأصول: أنه إذا تعارض النص الصريح في المسألة مع غيره مما هو أعم فإنه يقدم الصحيح الصريح، حتى ولو كان الصريح من الحديث الحسن فإن النبي -?- قال في الحديث الحسن: ((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب))، فدل هذا دلالةً واضحةً على أن العموم في الآية الكريمة مُخصص، وأن الاستدلال بهذا العموم لاشك أنه معارض بهذا الخاص الوارد في الصلاة.
الوجه الثاني من الجواب: أن نقول: إن قوله-عليه الصلاة والسلام-: ((لا صلاة)) تعارض مع قوله-تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} وحديث: ((لا صلاة)) يدل على أن الصلاة لا تصح، فدل على اشتراط الفاتحة لصحة الصلاة، فالوجوب فيه أقوى، وقوله -تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} وجوب استماع، ووجوب الإستماع لا يعارض وجوب الركنية؛ لأن القاعدة في الأصول: " إذا تعارضت الأركان والواجبات قدمت الأركان على الواجبات "، ولو أن قائلاً قال: إن إثبات الركنية إنما هو بالاجتهاد، لو سُلم جدلاً هذا فإننا نقول: تعارض الواجبان، هب أنهما واجبان، واجب متصل وواجب منفصل، والقاعدة: " أنه إذا تعارض الواجب المتصل بعبادة المكلف مع الواجب المنفصل؛ فإنه يُقدم المتصل الذي أمر به إلزاماً على من فصل عنه على سبيل المتابعة للإمام "، وبناءً على هذا يجب على المكلف أن يقرأ الفاتحة وراء الإمام، سواءً كانت الصلاة جهرية، أو كانت سرية.
الوجه الثالث من الجواب: أن القارئ لفاتحة الكتاب يمكنه أن يقرأ بفاتحه الكتاب أثناء سكتات الإمام - كما هو معلوم - وينصت لقراءة القرآن متى ما تيسر له ذلك، فجمع بين الآية والحديث؛ هذا غير أن النبي صلي الله عليه وسلم نهي عن منازعته إلا في قراءة الفاتحة، فيجوز منازعة الإمام فيها، كما قال شيخنا محمد بن عبد المقصود -حفظه الله -.
وأما الدليل الثاني: وهو قوله-عليه الصلاة والسلام-: ((وإذا قرأ فأنصتوا)) نعم إلا في الفاتحة، هذا غير أنه من جهة السند أضعف من الأحاديث التي أثبتت وجوب قراءة الفاتحة، والأصل عند العلماء أنه لا يحُكم بالتعارض بين حديثين أحدهما أصح. فإنه يقدم الأصح على الصحيح، ويقدم ماهو أقوى على ماهو قوي، ويقدم القوي على الضعيف، والصحيح على الحسن، - كما هو مقرر في علم الأصول -.
أما الدليل الثالث: وهو حديث: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)) ففيه ضعف من حيث السند عند جمهور المحدثين، فلا يقوى على معارضة أحاديث الصحيحين؛ لأنه لا يحكم بالتعارض إلا عند استواء الحديثين ثبوتاً عن رسول الله-?-.
¥