تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يقوي هذا المعنى أن الإنسان وإن كان علمه في نفسه فليس هو أمرا لازما للنفس لزوم الألوان للمتلونات بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل وقد ينساه ثم يذكره فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخرى وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تكل النفس وتعيى حتى لا يقوى على استحضاره إلا بعد مدة فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالما بالفعل , وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع ومن قال هذا يقول كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه.

وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتاد في مثل ذلك وإن كان هو سبحانه منزها عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه أو على زوال علمه عنه لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم.

وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله وما نال علمي وعلمك من علم الله وما أحاط علمي وعلمك من علم الله كما قال: {لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر أي نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا وإن كان المشبه به جسما ينتقل من محل إلى محل ويزول عن المحل الأول وليس المشبه كذلك فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس كما قال صلى الله عليه وسلم: [إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر] فشبه الرؤية بالرؤية وهي وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي فكذلك هنا شبه النقص بالنقص وإن كان كل من الناقص والمنقوص منه المشبه ليس مثل الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبهه به ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث يقتبس منه كل أحد ويأخذون ما شاءوا من الشهب وهو باق بحاله.

وهذا تمثيل مطابق فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارا من جنس تلك النار وإن كان قد يقال أنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم , ولهذا قال علي رضي الله عنه: العلم يزكو على العمل أو قال: على التعليم والمال ينقصه النفقة.

وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر: أن قوله: مما عندي وقوله: من ملكي هو من هذا الباب وحينئذ فله وجهان:

أحدهما: أن يكون ما أعطاهم خارجا عن مسمى ملكه ومسمى ما عنده كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسى والخضر.

والثاني: أن يقال: بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده ولكن نسبت إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة.

ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روى هذا الحديث من طريق عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر مرفوعا فيه: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغزر أبرة لو غمسها أحدكم في البحر وذلك إني جواد ماجد واجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون فذكر سبحانه أن عطاءه كلام وعذابه كلام يدل على أنه هو أراد بقوله: من ملكي ومما عندي أي من مقدوري فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم. والله أعلم

ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر: لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر , وهذا قد يقال فيه أنه استثناء منقطع أي لم ينقص من ملكي شيئا لكن يكون حاله حال هذه النسبة وقد يقال بل هو تام والمعنى على ما سبق.

الفتاوى الكبرى (1

117)

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير