فقد أنجبت الهند الكثير من الشعراء الذين رَقَمُوا أنفاس صدورهم على دفاتر الحياة، مثل: ميرزا أسد الله غالب، أكبر شعراء الأردية، والنواب ميرزا خان داغ، أحد فحول شعراء الأردية، وأنيس، ودبير، وأكبر إله آبادي .. وغير هم كثير، مرت عليهم قوافل الأيام، وحملت من حفنات شعرهم شيئا كثيرا، إلا أن الزمن توقف بأقلام شعرائه ونقاده وكُتَّابِه عند شاعرٍ واحدٍ أَطَلّ من الهند إلى العالم كله، فكان صورةً حيةً مُتَوَهِّجَةً، من الفكر المغموس في حبة القلب، والفلسفةِ التي خرجت من دَوَاة الوجدان، والعقل الذي اغتسل في ضياء الإسلام، فعاد بقلم جديد، وحرفٍ زاهٍ، وفكرٍ وثَّابٍ طَمُوحٍ يقرع جدران الكون بحرفه المدبب الفريد .. إنه محمد إقبال!
طفلٌ هبط إلى مَدْرَجَةِ الحياة عام 1877م في مدينة "سيالكوت"، الواقعة في ولاية "البنجاب"، من أسرة دانت بالبرهمية قرونًا طِوَالا، إلى أن جاء فَلَقُ الإسلام فتشبث به جده الأعلى قبل مئتي سنة .. ومِن يومِها عُرِفَ هذا البيت بالصلاح، والزهد، والسلوك، فتحدر إقبال من تلك النَّبْعَةِ الناسكة إلى ميدان الحياة، مُحَمَّلًا بتوجيهات أبيه، ورِعَايَةِ أمه، إلى أن استقام عقله على صراط الفكر، فصَعِدَ فَلَكًا هنديًّا يُطِلُّ في سماء الثقافة بشعره وأنفاس نفسه!
وأمسك إقبال القلم، يغمسه في دواة نفسه وحبة فؤاده، لا يتكلف الفكرة، ولا يصطنع اللفظة، يريد أن يُحَرِّرَ بلفظه العقلَ المسلم من أصفاد الكسل، وقيود الوهم.
وقد تعددت دواوين إقبال، وتتابع مَدُّ شعره حتى بلغ تسعة دواوين، خمسة بالفارسية، وأربعة بالأردية، وهي:
1 - الأسرار والرموز (أسرار خودي ورموز بيخودي):وهو صيحة إلى الاعتناء بالذات، وتقويمها، والنهوض بها.
2 - رسالة الشرق (بيام مشرق): وهو شعر ملون بين أطياف الفكر والسياسة والأخلاق.
3 - زبور العجم (زبور عجم): يتجلى فيه خطاب إقبال الرائع، مناديا الشباب وأوساط الشرق بروح شعره الجديد للنهضة والأخذ بالدين.
4 - هدية الحجاز (أرمغان حجاز): وقد كانت أكثر قصائد هذا الديوان شخصية، ومنها قصيدة "برلمان إبليس" من فرائد شعر إقبال.
5 - رسالة الخلود (جاويد نامه): وهو عبارة عن شعر مثنوي للفلسفة الدينية، وفي هذا الديوان قصة سفر للأفلاك تشبه قصة الشاعر الإيطالي الشهير: دانتي.
6 - ماذا ينبغي أن نصنع يا أُمَمَ الشَّرْقِ؟: وهو آخر ما نظمه الشاعر بالفارسية، وهو نَفَسُ أسَفٍ على ما أصاب أمة الإسلام من ضعف وهوان.
هذه هي دواوينه الفارسية، وأما دواوينه الأردية الأربعة فهي:
7 - صلصلة الجرس (بانك درا): فيه قصائد ممتعة عن الحب والطبيعة والأطفال، وتشجيع المسلمين على الحث والتضحية.
8 - جناح جبريل (بال جبريل): يحكي فيه الشاعر خواطره الخاصة عن أسفاره إلى فلسطين وإسبانيا، وما كان للمسلمين هنالك من حضارة باذخة أضاءت جنبات العالم حينا .. ثم هوت فانطفأت!
9 - ضرب الكليم (ضرب كليم): يعالج فيه قضايا العصر الحديث ومشكلاته.
10 - هدية الحجاز (أرمغان حجاز): هو تمام الديوان الأول، ولكن بالأردية.
وهذا الربيع الشعري الممتد بظلاله وعبيره العاطر دعا الكثيرَ من الأقلام إلى غَرْسِ هذه الزهور في مزهرية عربية!
فسعتْ أقلامُ الكِبار إلى ترجمة مزامير إقبال الرائعة؛ من أمثال العلامة الأديب عبد الوهاب عزام، والذي احتمل عبء النهوض بهذه الأمانة الكبيرة، فكان ذا حظ وافر في ترجمة دواوين عدة لإقبال، ومنهم الشيخ الصاوي شعلان، ومنهم الشيخ العلامة أبو الحسن الندوي، رحمهم الله تعالى.
وتوالت الدراسات الناقِدَةُ والْمُعَلِّقةُ والباحِثَةُ من القارات السِّتِّ، عن إقبال وشِعره وفَنِّه وفِكْره، حتى زادت الدراسات والبحوث والتعليقات والمناقشات حول إقبال وشعره عن أَلْفَيْ بحث ودراسة ورسالة!
ومَنْ تأمّل شِعر إقبال وجد فيه روحا وثّابة تلمع في الحروف، مع أنها قصائد مترجمة، ولا بد أن يكون سَقَطَ دون جسر الترجمة معانٍ كثيرة، أو انتُقِصَتْ، أو حُوِّلتْ عن مسارها، أو صُرِفَتْ عن سياقها، إلا أن الشعر لم يزل بروحه الوهاجة، وجمره المتوقد، مقاومًا ما عساه يتناثر من رماد الترجمة؛ لأنه كان صُبَابَةَ رُوحٍ تعيش هذه المعاني في حَرَكةِ حياتها!
ولهذا قال شيخُ العربيةِ العلامةُ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى عن إقبال: " وكان أعظم ما أدهشني رفضُ إقبال أن يدخل مسجد باريس، ومقالَتُه: إن هذا المسجد ثمنٌ رَخِيصٌ لتدمير دمشق!
فلولا أن الرجل- والكلامُ لشاكر-كان يعيش في حقيقةٍ صريحة، وفي ذكرٍ دائِمٍ لا ينقطع لما نزل بنا وطَمّ، لما خطر له هذا الخاطر! وكم من غافلٍ ساهٍ مِنَّا ومن قومنا يعرض له أن يحيا تاريخ نفسه، وتاريخ دينه، بمثل هذه الكلمة؛ ثم لا تراه إلا حيث يكره الله من الذل والضَّعَة والعبودية، والفتنة بما زَيَّن له أعداءُ الله وأعداءُ رسولِه صلى الله عليه وسلم".
وهذا كلامُ عليمٍ باللفظ وما يَدُلّ عليه، وما يختزن في أحنائه من أطياف النفس الناطقةِ به ..
مضى إقبال إلى ربه عام 1938م، وفي يده مِشْعَلٌ لم يَسْقُطْ، وكان يُرَدِّدُ قُبَيْل وفاته بعشر دقائق: "أنا لا أخشى الموت، أنا مسلمٌ، ومن شأن المسلم أن يستقبل الموت مبتسما"! ..
رحل .. وما زالت وصِيَّته تُنادي أرواحا تثاءبت في هياكل الجسد، ويقارن بين ما كان المسلم عليه، وما صار اليوم إليه!
إنّ دِينَ المُصْطَفَى دِينُ الحياه
شَرْعُهُ للناس قَانُونُ الحَيَاه
إنْ تَكُنْ أرضًا يُصَيِّرْك السَّمَاءْ
ويُرَبِّيكَ كما الحقُّ يَشَاءْ
ضَيَّعَ القومُ شِعَارَ المُصْطَفَى
ضَيَّعُوا رَمْزَ بَقَاءٍ عُرِفا
الذي البَطْحَاءُ أَزْكَتْ غَرْسَهُ
ورِيَاحُ البِيدِ رَبَّتْ نَفْسَهُ
أذبلته اليوم ريح العجمِ
صيرته النايَ رُوحُ العَجَم!
مَنْ أَذَابَ الصَّخْرَ فِي تَكْبِيرِهِ
رَاعَهُ البُلبُلُ في تَصْفِيرِهِ!
مَنْ عَلَا الطَّوْدَ سريعا مُصْعِدَا
غَلَّ بالتُّكْلَانِ رِجلًا وَيَدَا!