ليست لفظة من في هذه الآية للتبعيض، كما يزعمه النصارى افتراء على الله، ولكن من هنا لابتداء الغاية، يعني أن مبدأ ذلك الروح الذي ولد به عيسى حياً من الله تعالى. لأنه هو الذي أحياه به، ويدل على أن من هنا لابتداء الغاية.
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13] أي: كائناً مبدأ ذلك كله منه جلَّ وعلا ويدل لما ذكرنا ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: «خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، ثم ردها إلى صلب آدم، وأمسك عنده روح عيسى عليه الصلاة والسلام. فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام» وهذه الإضافة للتفضيل. لأن جميع الأرواح من خلقه جل وعلا كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِين} [الحج: 26]. وقوله: {نَاقَةُ الله} [الأعراف: 73] الآية. وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله، فيقال هذا روح من الله أي: من خلقه، وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فاستحق هذا الاسم، وقيل سمي روحاً بسبب نفخة جبريل عليه السلام المذكورة في سورة الأنبياء والتحريم، والعرب تسمي النفخ روحاً.
وأما قوله تعالى {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا}.
قال الشيخ عطية سالم في تفسير هذه الآية في تكملته لـ"أضواء البيان":
بين تعالى المراد بالروح بأنه جبريل عليه السلام في قوله: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17] وهو جبريل.
كما في قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] أي نزل جبريل بالقرآن، وفي هذه الآية رد على النصارى استدلالهم بها على أن عيسى عليه السلام ابن الله ومن روحه تعالى، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وبيان هذا الرد أن قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] تعدية أرسل بنفسه، يدل على أن الذي أرسل يمكن إرساله بنفسه، وهو فرق عند أهل اللغة، بينما يرسل نفسه وما يرسل مع غيره كالرسالة، والهداية، فيقال فيه: أرسلت إليه بكذا، كما في قوله: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] الآية.
فالهدية لا ترسل بنفسها، ومثله بعثت، تقول: بعثت البعير من مكانه، وبعثت مبعوثاً، وبعثت برسالة، ثانياً قوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَ بَشَراً سَوِيّاً} [مريم 17] لفظ الروح مؤنث، كما في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 83 - 84] أنت الفعل في بلغت، وهنا الضمير مذكر عائد لجبريل.
وقوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17]، ولو أنه من روح الله على ما ذهب إليه النصارى، لما كان في حاجة إلى هذا التمثيل.
ثالثاً قوله لها: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] ورسوله ربها هو جبريل عليه السلام، وليس روحه تعالى.
رابعاً: قوله: {لأَهَبَ لَكِ غُلاَمَاً زَكِيّاً} [مريم: 19]، ولم يقل لأهب لك روحاً من الله.
ومن هذا أيضاً قوله تعالى للملائكة {إِنِّي خَالِقُ بَشَراً مِّن طِينٍ} [ص: 71] يعني آدم عليه السلام {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [ص: 72] أي نفخت فيه الروح التي بها الحياة، {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72]. فلو أن الروح من الله لكان آدم أولى من عيسى، لأنه لم يذكر إرسال رسول له، وقد قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، فكذلك عيسى عليه السلام لما بشرتها به الملائكة، {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]، فكل من آدم وعيسى، قال له تعالى {كن فكان} والله تعالى أعلم.
ـ[أبو تراب السلفي]ــــــــ[24 - 10 - 08, 07:29 ص]ـ
والله أعلم فإن أحدا لم يذكر دليلا غير الاجماع واستقراء القرآن وهما كافيان إن شاء الله.
ولكن عندي استشكال على جعل الروح دائما مخلوقة.
فمن يقول ان الروح مخلوقة في قوله (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) فهنا الروح هي القرآن وهو بلا شك صفة الله وكلامه؟!
والروح في هذه الآية منفصلة وليست وصفا لله ولا مضافة إليه في سياق الآية.
ـ[عبد الرحمن السني]ــــــــ[24 - 10 - 08, 08:11 ص]ـ
أخي أبو تراب، ما قصدت أن كل كلمة روح معناها الروح المخلوقة وإنما عندما تأتي بمعنى الروح المعروفة مثل حديث وفاة الإنسان وخروج روحه وبصره إياها، فهي هنا تثبت أن الروح بمعناها المعروف مخلوقة قائمة بذاتها، ويمكن أن تأتي بمعنى جبريل عليه السلام، وهو مخلوق أيضا، وإذا أتت بمعنى القرآن كما ذكرتَ وكما ذكر المفسرون مثل الطبري وابن كثير فهي القرآن وهو كلام الله غير مخلوق.
الخلاصة التي قصدتها أنها إذا نسبت لله ولم يكن معناها القرآن كما هو واضح في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} فهي هنا بلا شك ليست القرآن بل هي الروح المخلوقة القائمة بذاتها لذا لا تصلح أن تكون صفة لله.
هذا من ناحية الاستدلال، وأما الإجماع فهو الحجة وهو أبين من كل هذا الكلام.
¥