ونطاق المتغيرات يشمل كل شيء ما عدا الأصول والثوابت القطعية، وفي غير أصول العقائد والعبادات، وأكثر ما يظهر في عالم المعاملات الاقتصادية والمالية والقضايا السياسية والطبية، والعلاقات الدولية ونحوها، يقول الإمام الشاطبي: "مجالات الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات"، ويقول الغزالي: "المجتهَد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي".
ضوابط الاجتهاد في المتغيرات
ومن أهم تلك الضوابط: أ- أن يكون لديه علم بالقرآن الكريم عامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيده، وأساليبه، ودلالاته بصورة عامة، وكذلك العلم بالسنة النبوية وضوابط الحديث الصحيح والحسن، والضعيف، والموضوع، وكذلك العلم بالناسخ والمنسوخ. وأن يكون قادرا على استخراج العلل والأسباب والحكم، والشبه من النصوص، والتعامل مع عموم النص من إجماله، ومن أحواله ودلالاته وأماراته.
ب- أن يكون لديه العلم بقواعد اللغة العربية علما عميقا، والعلم بأصول الفقه، ومبادئه، وقواعده الكلية، وبالأعراف السائدة، والمستجدات وما حدث في عصرنا ولو بصورة مجملة.
ج- أن يكون لديه العلم بالمجمع عليه والمختلف فيه من حيث الجملة، وذلك من خلال دراسته لآراء الفقهاء وأصول المقارنة وكيفية الترجيح والتخريج والتنظير.
د- أن يكون قادرا على فهم مقاصد الشريعة على كمالها، يقول الشاطبي: "بأن يبلغ مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله".
الخلاف المشروع
يعتبر من ثوابت هذا الدين وقواطعه وجوب الاتحاد والوحدة والترابط بين المسلمين، وحرمة التفرق والتمزق فيما بينهم، فاتحاد الأمة فريضة شرعية يفرضها الدين الحنيف، وضرورة واقعية يفرضها الواقع الذي نعيشه، حيث أصبحت الأمة الإسلامية بسبب تفرقها وتمزقها ضعيفة مهددة في وجودها وكيانها وسيادتها، طمع فيها الطامعون، وغلب على معظمها المستعمرون والحاقدون، لا سيما عالمنا اليوم الذي تكتلت فيه القوى وأصبح الإسلام الهدف الأساسي لها.
ولا نجد دينا ولا نظاما أولى عنايته بالاتحاد وحذر من خطورة التفرق مثل الإسلام، حيث توالت الآيات الكثيرة والأحاديث المتضافرة على وجوب التعاون والاتحاد، وحرمة التفرق والاختلاف.
فمنها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103:105].
وقد نزلت هذه الآيات في الأوس والخزرج في الإسلام بعد أن بذل شاس بن قيس اليهودي جهدا كبيرا في إثارة نعرات جاهلية بينهم، حيث أرسل شابا يهوديا يذكرهم بيوم بعاث، فأنشدهم الأبيات فتذكروا، فتنازعوا وتفاخروا حتى كاد القتال ينشب بينهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ أبعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر، وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ ".
¥