ولما كانت وظيفة "الحماية"تقتضي وجود عدو صائل فقد أوهموا الناس أن هناك أخطارا محدقة بالدين، وأنه يجب التصدي لها، وأن علم الكلام هو المؤهل لذلك!!
ولكن إلى أي حد كانوا واقعيين في تصور هذه الخلفية؟
كل القرائن -عند التحقيق- تشير إلى أن" افتراض" خطر يهدد العقيدة مسوغ أديولوجي لا حقيقي ..
فعلى الصعيد النظري كان المسلمون زمن ظهور علم الكلام في أوج قوتهم المادية والنفسية والروحية .. فكيف يخشى على عقيدتهم؟ وهل يخاف المنتصر من ثقافة المنهزم؟ ولنا شهادة العلامة ابن خلدون- وهو أشعري- الذي أثبت عكس دعاوى علماء الكلام فالمنهزم هو الذي يسعى إلى تقليد غالبه إيمانا منهم أن الغالب ما تمكن منه إلا لأسباب هي عنده فتكون الرغبة والحاجة إلى الأخذ بها فيقلد غالبه ويتتلمذ عليه ... وهذا صحيح نفسيا ومجرب تاريخيا وإن حالة المسلمين اليوم لدليل على صدق نظرية ابن خلدون ..
إن الشعوب المنهزمة هي التي كان لها أكثر من مسوغ لحماية تراثها من الإسلام الفاتح .. فعلماء الكلام كان يجب إذن أن يظهروا في المعسكر الآخر!!
أما مسألة التصدي للشبهات فلا متمسك لهم فيه .. لأن إشاعة الشبهات هي ديدن إبليس منذ أن لعنه الله ... كانت قبل ظهور الأشاعرة وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يتأسس علم الكلام مع الحاجة إليه- كما هم يزعمون-:
جاء في صحيح مسلم:
190 - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ..
و حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ فَيَقُولُ اللَّهُ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ وَزَادَ وَرُسُلِهِ
(رواه أحمد بن حنبل في مسنده و ابن حبان في صحيحه وأبو يعلى والطبراني وغيرهم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أعظم شبهة يمكن أن تثار للتشويش على العقيدة ... ونلاحظ أولا أن الأمر يتعلق هنا بتوحيد الربوبية وهو النوع الذي تجند له علماء الكلام لتقريره وإثباته-زعموا- ونلاحظ ثانيا أن هذه الشبهة ليست وقتية بل هي مزمنة كما يشعر قوله" لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ .. "
ونلاحظ ثالثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل الأمة على الحل ... "فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ."
فماذا سيقول علماء الكلام عن الحل النبوي للشبهة؟
هل فرط-حاشاه- في الجواب عن الشبهة إذ لم يستعمل التحليل المنطقي للشبهة فيفحم الشيطان بطريقة عقلية؟
أم ترك الشبهة عالقة بدون حل ... ؟
أم أنه اعتبر الشبهة وسوسة المنهزم،
وأن الإعراض عنها كفيل بوأدها،
وأن الشيطان سيخنس مدحورا أمام الفطرة،
وان الجدال قد يقويه أكثر مما يضعفه لأنه سيفتح له مجالات الاعتراض وفرص لإلقاء شبه أخرى ...
وأن مراده إضاعة الوقت وإشغال الناس،
وأنه مهما رددنا عليه فإن الشبهة سيثيرها متكالبا في كل حين " لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ .. "!!!!!
على كل حال ألم يكن هذا الموقف داعيا لإظهار الوجه الكامن للأشعرية!!
إن دعوى حماية العقيدة يكذبها التاريخ عمليا أيضا .. وقد صدق ابن تيمية عندما قال: "وهم لا الإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا".
فإن شكوا في ما قال الشيخ فما عليهم إلا أن يثبتوا بالوقائع التاريخية خطأه .. لا بالادعاء!
فهل مناظرات الباقلاني-على سبيل المثال- عند ملك الروم قادت البيزنطيين إلى الإسلام أو على الاقل كسرت شوكة الصليبيين؟ أم أن الباقلاني كان يخشى على عقيدة التوحيد من التثليث فناظر درءا للمفسدة .. علما أن عقيدة التثليث لم يأبه بها العرب إلا قليلا وهو أمة أمية مشركة فكيف يخشى عليهم منها وقد بعث الله فيهم أعظم الرسل وفيهم كتاب الله يتلونه!!!
للحديث صلة ..
¥