فأعلاها فضلاً أشدها حفاظًأ على الضروريات، كما يكتسب الفعل قيمته الأخلاقية بمقدار تحقيقه لكليات هذه الضروريات حتى إن المطلوب الشرعى بالجزء ليصير أشد طلبًا بالكل ... وعليه فإن كان العمل ينتج أمرًا كليًا ضروريًا كان فى أرفع درجات المطلوبات والواجبات حتى يصير من أركان الدين وإن كان مما ينتج أمرًا مضادًا كان من كبائر الذنوب، وإلا كان من النوافل أو المكروهات أو المخيرات، فالأعمال عند الفقهاء تأخذ قيمتها الأخلاقية من كونها مؤدية إلى صلاح العالم أو كمال ذلك الصلاح.
لكن إذا ظهرت البواعث والنيات كان الحكم بفضيلة العمل يتخذ بعدًا آخر، كما يعنى الفقهاء بهذا الجانب لدوره فى تهذيب الأخلاق وإصلاح النفوس وترقيتها فى مكارم الأخلق.
فالأعمال بمقاصدها كما أنها بنتائجها، والنيات معتبرة فى التصرفات بل الواقع أنه لا بد لكل عمل من باعث، والمقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة وفى العبادة بين ما هو واجب وغير واجب وفى العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم وفى المعاملا ت بين ما هو صحيح وبين ما هو فاسد ..
والعمل الواحد يقصد به أمر فيصير طاعة ويقصد به آخر فيصير غير ذلك، بل يقصد به أمر فيصير إيمانًا ويقصد به آخر فيصير كفرًا كالسجود ..
والعمل إذا تعلق به قصد تعلقت به الأحكام الفقهية وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شىء كفعل الساهى، فإن تعلق به حكم فهو حكم الوضع لا حكم التكليف وذلك إذا تعلق بحقوق الاخرين كرد الودائع حيث تحصل به الفائدة قلا يطالب بإعادته.
فإذا وافقت النية مقصد الشرع فى اعتقاد المكلف وفى الواقع أو خالفته فالأمر فى ذلك قريب لا خلاف فيه حتى لو وقع الفعل على خلاف المتوقع وكذا لو خالفت النية مقصد الشرع فى اعتقاد المكلف وفى الواقع مع خلاف يسير، لكن الإشكال فيما لو خالف المكلف مقصد الشرع ناويًا مطابقته أو طابقه ناويًا مخالفته وهو ما نما فيه الخلاف بين الفقهاء:
فمال فريق من الفقهاء إلى مراعاة النية مع تلافى ما يجب تلافيه من العبادات، ومال فريق آخر إلى مراعاة مقصد الشرع فأبطلوا كل معاملة تخالف مقصد الشرع .. والواقع أن لا تسوية بين فعلين أحدهما خالف الشرع مكافحًا والآخر خالفه عن جهل أو نسيان.
وتوسط فريق ثالث فأعمل مقتضى الموافقة فى إسقاط الحدود والعقوبات مطلقًا وأعمل مقتضى المخالفة فى عدم البناء على الفعل ... والأمر يحتاج لبحث مستفيض.
لكن هل يعنى الفقهاء بضرورة مطابقة قصد المكلف لمقصد الشرع العمل لمجرد الامتثال أو العمل لأجل المقاصد الأصلية مجردًا عن الحظوظ؟
لا شك فى صعوبة ذلك وقد أمرنا الله -تعالى- جميعًا بالإخلاص فلو كان المقصود به مجرد الامتثال أو العمل للمقاصد الأصلية من صلاح العالم وخلافة الله تعالى فى الأرض وإقامة ذلك لمصالح الآخرة لكان أشبه بالتكليف بما لا يطاق، بل إنما يجعل الإنسان حظه مقصدًا والعمل وسيلة وإلا لم يكن ثم عمل يطلب ..
والواقع أم فى المسألة تفصيلاً عند الفقهاء:
فمن عمل للامتثال المجرد أو المقاصد الأصلية فلا شك فى صحة عمله وأنه فى أعلى المراتب، فالامتثال المجرد محض العبودية وكان دأب النبى صلى الله عليه وسلم حتى كان طلبه للحظوظ عاريًا عن الحظوظ، ومن قام بمراعاة المقاصد الأصلية صار العمل بالنسبة له عبادة سواء كان من العبادات أو العادات فهو إذا فهم مقصد الشرع وعمل بمقتضاه فهو إنما يعمل من حيث طلب منه أن يعمل وينتقل عمله إلى دائرة الوجوب من حيث صار حفاظًا على المقاصد الأصلية بخلاف البناء على المقاصد التابعة، وقد يحصل ذلك أيضًا مع تجريد الامتثال.
أما إن عمل المكلف للمقاصد التابعة أو الحظوظ ففيه تفصيل:
فإن راعاها من حيث دخولها تحت الطلب لا من حيث الحظ كالوكيل فى مال اليتيم الذى إن احتاج أكل بالمعروف فهو صحيح.
وإن أخذها من حيث الحظ فقد مال بعض الفقهاء إلى تصحيح فعله واعتباره داخلاً تحت الطلب، وفرق بعضهم فصححه فى المعاملات لأنه رأى أن مقصد الشرع فيها مراعاة حظوظ المكلفين ولو كان قصدها قادحًا فى المعاملات لالتحقت بالعبادات وليس كذلك ..
على أنه ينبغى التفريق بين المغاير للمقاصد الأصلية والمناقض لها، وبين الحظوظ التى هى مقاصد شرعية بالتبع كالذى يرجع منها إلى صلاح الهيئة وتحسين الظن مع الغفلة عن الرياء وبين الحظوظ التى هى باطلة شرعًأ فإنها محبطة للعمل.
ـ[المقرئ]ــــــــ[03 - 08 - 04, 05:32 م]ـ
شكر الله للشيخ الدرعمي هذا التفصيل والتأصيل
وبودي أن أحاوركم في بعض النقاط ولكن لا أريد أن أفسد موضوعكم وإذا ما انتهيتم تدارسنا جميعا فواصل بارك الله فيك
المقرئ
ـ[الدرعمى]ــــــــ[03 - 08 - 04, 06:41 م]ـ
بارك الله فيكم يا شيخنا الجليل على هذا التشجيع وأعتقد أننى قد قصرت كثيرًا فى عرض الموضوع حتى يمكن وصفه بالغموض إلى حد كبير وكان لا بد أن أعرض أولاً للحديث عن علم الأخلاق وأصوله وهو علم قائم بذاته وله أسسه وقواعده الثابته وكان لا بد أن أعرض لتاريخ هذا العلم ونشأته وجهود ومصنفات المسلمين التى عنيت بهذا العلم بصورة مباشرة وهى قليلة جدًا تكاد تنحصر فى الذريعة إلى مكارم الشريعة للأصفهانى والأخلاق والسير لابن حزم وبعض المصنفات لابن مسكويه مثل السعادة والفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق وقد نالت قسطًا وفيرًا من الدراسة وإن كنت ارى أن فى كتاب الحسنة والسيئة لابن تيمية وميزان العمل للغزالى بعدًا أخلاقيًا مهمًا وقد اهتم الباحثون مؤخرًا بالبعد الأخلاقى عند الصوفية أما البعد الأخلاقى عند الفقهاء فلم يحظ باهتمام كاف وقد نبهنى بعض العلماء لأهمية كتاب الموافقات للشاطبى بهذا الصدد فعكفت عليه مدة لخصت منه بعض الفوائد التى تتعلق بعلم الأخلاق وصنفتها على أبواب هذا العلم.
¥