تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قيد بعض المباح كما مر وألزم ببعض، فإنه امتنع عن تقييد المباح في مواضع أخر مثال ذلك رفضه صلى الله عليه وسلم تقييد بيع السلع بسعر محدد فالتسعير لم يكن ضرورة ولم تلجئ إليه حاجة، ولم تكن المصلحة في تقييده مصلحة عامة بل هي مصلحة ينتفع بها أقوام ويضر بها آخرون، فالتاجر يباح له أن يبيع بضاعته بالسعر الذي يناسبه ويرى فيه تحقيق مصلحته ويحقق له المكسب المناسب لتجارته، ولا يجوز أن يجبر على البيع بسعر محدد لأن هذا القيد وإن انتفع به المشترون لكن فيه مضرة للتجار البائعين، كما أن فيه مضرة على المجتمع إجمالا حيث يدفع ذلك التجار إلى إخفاء السلعة ومحاولة بيعها من الأبواب الخلفية، وهذا يستلزم إيجاد جهاز كبير من ولي الأمر لمراقبة هذا الأمر وهكذا يدفع التصرف غير الصحيح إلى تصرفات غير صحيحه في الجانب المقابل، فعن أنس بن مالك قال: "غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" [5].

فلما زادت أسعار السلع وأراد الصحابة أن يجعل الرسول لها سعرا محددا ولا يترك ذلك للتجار فقالوا: سعر لنا، لكنه لم يفعل وقال: "إن الله هو المسعر"، فإذا كان غلاء الأسعار نتيجة حقيقية لغلاء السلعة على التجار ولم يكن من قبيل تلاعبهم بالأسعار أو نتيجة للاحتكار، لم يجز لأحد أن يسعر عليهم بحيث يتقيدون بما وضعه من سعر فلا يزيدون عليه، بل هذا من الظلم كما دل عليه الحديث السابق، وذلك بعكس ما إذا كان هذا الغلاء راجعا إلى تلاعب التجار بالأسعار أو راجعا للاحتكار، فإن للحاكم أن يسعر عليهم في هذه الحالة.

فالبيع في أصله أمر مباح لا يقيد بغير القيود الشرعية ولا يؤمر به أمر إيجاب، فلا يجبر أحد على البيع، لكن لو شحت الأقوات وقاربت على النفاذ وامتنع التجار عن البيع فإن للحاكم أن يلزمهم بالبيع أو يجبرهم عليه، إذا كانت السلعة من الأقوات أو مما يحتاج الناس إليه حاجة عامة ولم يكن من الكماليات، وهذه أيضا حالة مؤقتة ليست دائمة

ومن أمثلة تقييد المباح بالنص ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حيث قيد حكم إباحة الزواج من الكتابيات، فمنع من ذلك كبار الصحابة وأهل القدوة فيهم حتى لا يقتدي المسلمون بهم في ذلك فتروج سوق الكتابيات وتكسد سوق المسلمات، كما أن عمر رضي الله تعالى عنه نظر نظرة أخرى في هذا الأمر وهو أن كثيرا منهن لسن عفيفات فالزواج منهن قد يفضي للزواج بالمومسات، أما العفيفة منهن لغير أهل القدوة فلا منع من الزواج منها، وتقييد عمر رضي الله تعالى عنه لهذا الأمر ليس على سبيل المنع منه أو التحريم ولكن على سبيل اختيار الأفضل والأولى في حق أهل القدوة وإلا لو خالفه في ذلك أحد من كبار الصحابة لم يعاقبه على المخالفة، ثم هو في الوقت نفسه تقييد ليس على سبيل العموم وإنما تقييد خاص بفئة معينة، روى ابن جرير الطبري عن شقيق قال: "تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: خَل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخَلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن" [6] وقد علق ابن جرير على ذلك فقال: "وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما" [7]

لكن هذا التقييد أو الإلزام في هذا الباب يرد عليه قيدان لا بد من تحققهما:

أولا: أن تكون الحالة الملجئة حالة حقيقية وليست مفتعلة فينبغي قبل الفتوى بجواز القيد أو الإلزام أن يتأكد المفتي من صدق الحالة المعروض عليه الإفتاء فيها لاسيما إن كان ولي الأمر سوف يلزم بها الناس، ولعل من ذلك ما كان من الشيخ عز الدين بن عبد السلام حينما أراد ولاة الأمر في زمنه فرض ضرائب على الناس زائدة عن زكاة أموالهم لمواجهة نفقات المواجهة مع التتار، فامتنع عن الفتوى بذلك حتى يخرج الأمراء المماليك من أيديهم وأيدي جنودهم ما معهم من أموال أخذوها من بيت المال، فلما قام الأمراء بذلك واستهلك بيت المال ولم يعد فيه ما يكفي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير