" بالنسبة للغناء إذا لم يكن فيه ما يثير الغريزة الجنسية فإننا لا نجد موجباً لتحريمه، وإنَّ العرب كانوا يرجزون ويغنون ويضربون بالدف، وورد في بعض الآثار الدعوة إلى الضرب بالدف في الزواج، وقيل: (فرق ما بين الحلال والحرام الدف)، ومثل ذلك الموسيقى. ونجد أنه لما دخل الغناء الفارسي بالألحان في عهد التابعين كانوا فريقين فريقاً يميل إلى الاستماع ولا يجد فيه ما يمس الدين كالحسن البصري
وفريقاً لا يميل إليه ويجده منافياً للزهادة والورع كالشعبي
وعلى أي حال، فإنه من المتفق عليه أنه ما دام لا يثير الغريزة الجنسية، ولا يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، فليس فيه ما يمس الدين "!
قلت: وقد كنت كتبت وقتئذٍ رداً على هذه الفتوى لمخالفتها للأحاديث الصحيحة ومذهب جمهور العلماء، وأرسلتها إلى المجلة، ولكن حال دون نشره فيما يبدو تعطيل المجلة في عهد عبد الناصر، ومنعها من الصدور.
وفي هذه الفتوى على اختصارها من الأخطاء والأوهام المختلفة ما كنت أتصور أن الشيخ أكبر من أن يقع في مثلها! فلا بد لي من بيانها مع الاختصار قدر الإمكان، إلا فيما له صلة تامة بموضوع الرسالة فأقول:
الأغاني والموسيقى:
1 الموجب لتحريم الغناء الأحاديث الصحيحة الثابتة في كتب السنة كما سيأتي بيانها مخرجة مصححة من العلماء في هذه الرسالة، فهل الشيخ وهو من كبار علماء الأزهر يجهلها، أم هو يتجاهلها كبعض تلامذته كما سيأتي؟ أحلاهما مر!
2 إن القيد الذي شرعه من عنده: أن لا يثير الغريزة الجنسية، وقد قلَّده فيه بعض تلامذته كالشيخ القرضاوي والغزالي وغيرهما، فقال الأول كما سيأتي نقله عنه في هذه المقدمة، مفصحاً: " ولا بأس بأن تصحبه الموسيقى غير المثيرة " يعني الغناء!
فأقول: هذا القيد نظري غير عملي، ولا يمكن ضبطه، لأن ما يثير الغريزة يختلف باختلاف الأمزجة ذكورة وأنوثة، شيخوخة وفتوة، وحرارة وبرودة، كما لا يخفى على اللبيب.
وإني والله لأتعجب أشد العجب من تتابع هؤلاء الشيوخ الأزهريين على هذا القيد النظري، فإنهم مع مخالفتهم للأحاديث الصحيحة، ومعارضتهم لمذاهب الأئمة الأربعة وأقوال السلف يختلقون عللاً من عند أنفسهم لم يقل بها أحد من الأئمة المتبوعين، ومن آثارها استباحة ما يحرم من الغناء والموسيقى عندهم أيضاً، ولنضرب على ذلك مثلاً، قد يكون لأحدهم زوجة وبنون وبنات، كالشيخ الغزالي مثلاً الذي يصرح وقد يتباهى! بأنه يستمع لأم كلثوم ومحمد بن عبد الوهاب الموسيقار (!) وأضرابهما، فيراه أولاده بل وربما تلامذته، كما حكى ذلك هو في بعض كتاباته، فهل هؤلاء يستطيعون أن يميزوا بعلمهم ومراهقتهم بين الموسيقى المثيرة فيصمّون آذانهم عنها، وإلا استمروا في الاستماع إليها! تالله إنه لفقه لا يصدر إلا من ظاهري جامد بغيض، أو صاحب هوى غير رشيد.
لقد ذكّرني هذا بتفريق المذهب الحنفي بين الخمر المتخذ من العنب، فهو حرام كله، لا فرق بين قليله وكثيره، وبين الخمر المتخذ من غير العنب كالتمر ونحوه؛ فلا يحرم منه عندهم إلا الكثير المسكر!
أما كيف التفريق عملياً بين القليل غير المسكر فيه، والكثير المسكر، وإن أمكن ذلك فمتى؟ أقبل تعاطيه؟! أم بعد أن يسكر؟! فهذا مما سكتوا عنه، وتركوا الأمر للشارب! كما فعل مثل ذلك الشيوخ المشار إليهم من التفريق بين الموسيقى المثيرة المحرّمة، والموسيقى غير المثيرة المباحة!! فهل يقول بهذا من يؤمن بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: ". . ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنَّة، التي عليها قامت قاعدة " سد الذريعة "، والتي تعتبر من كمال الشريعة، وأشاد بها الشيخ القرضاوي نفسه، في مقدمة كتابه " الحلال والحرام "؟! وضرب لها ابن القيم عشرات الأمثلة من الكتاب والسنَّة، فراجعها فإنها هامة.
وأسوأ من هذا التفريق وذاك، ما كنت قرأته في نشرة لحزب إسلامي معروف أنه يجوز للرجل أن يقبِّل المرأة الأجنبية عند السلام عليها، وليس مصافحتها فقط، بل وتقبيلها أيضاً، قالوا: ولكن بنيَّة طيبة وبغير شهوة!!
¥