" لكن معناه متفق مع آية من كتاب الله، أو أثر من سنَّة صحيحة. . . ".
انظر كلمته في مقدمة كتابه " فقه السيرة " حول تخريجي لأحاديثه تحت عنوان " حول أحاديث الكتاب " تجد تحته تصريحه بأنه يصحح الحديث الضعيف عند المحدثين، ويضعِّف الصحيح عندهم، بناء على ماذا؟ أَعلى الشروط المعروفة عند علماء الحديث وحكاها هو في أوَّل كتابه " السنَّة " (ص 14 15) ذرّاً للرماد في العيون؟ كلا فهو في قرارة نفسه لا يؤمن بها، والله أعلم ولئن آمن بها، فهو لا يحسن تحقيقها، وإنما اعتماده مجرد رأيه وزعمه أن معناه صحيح! ولا يشعر المسكين بمبلغ الضلال الذي وقع فيه بسبب إعجابه برأيه واستخفافه بعلم الحديث وبأهله أنه ألحق نفسه بتلك الطائفة من الكذابين والوضّاعين الذين كانوا كلما رأوا حكمة أو كلاماً حسناً جعلوه حديثاً نبوياً، فلما ذُكِّروا بقوله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " قالوا: نحن لا نكذب عليه، وإنما نكذب له!! ذلك هو موقف كل (من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم. .) الآية. بل هو قد يزيد عليهم فيبطل بمثله حكماً شرعياً ثابتاً بالأحاديث الصحيحة، وأعني بذلك قوله (ص 18):
" وقاعدة التعامل مع مخالفينا في الدين ومشاركينا في المجتمع أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فكيف دم قتيلهم؟ ".
أقول فيه من المخالفات للشرع والعلم ما يأتي:
أولاً: قوله: " لهم ما لنا، وعليهم ما علينا "، يشير إلى حديث ذكره بعض فقهاء الحنفية ممن لا علم عندهم بالحديث؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في أهل الذِّمَّة، وهو حديث لا أصل له في شيء من كتب السنَّة كما أشار إلى ذلك الحافظ الزيلعي الحنفي في " نصب الراية "، وهو مخرج في المجلد الخامس من " سلسلة الأحاديث الضعيفة " برقم (2176) وهو تحت الطبع.
ثانياً: هذه الجملة التي صيروها حديثاً مستقلاً، هي في الحقيقة قطعة من حديث صحيح، وَرَد فيمن أسلم من المشركين، فهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " هكذا هو في " سنن الترمذي " وغيره من حديث سلمان رضي الله عنه، وفي " صحيح مسلم " وأبي عوانة، وابن حبَّان، وابن الجارود من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وهما مخرَّجان في " الإرواء " (ص 1247) و " صحيح أبي داود " (2351 2352).
فأبطل الغزالي هذا الحديث الصحيح برأيه الفج، وجهله الفاضح بالسنَّة متوكئاً على الحديث الذي لا أصل له! تالله إنه لو لم يكن في كتابه إلا هذه المخالفة بل الطامّة لكان كافياً لإهباط قيمة كتابه، وإسقاط مؤلفه من زمرة الفقهاء! أما الكتابة فهي له! أما العلم والفقه فله رجال!! فكيف وهناك عشرات بل مئات الطامَّات التي تولى بيان بعضها (!) إخواننا الأساتذة والمشايخ الذين ردوا عليه، جزاهم الله خيراً.
ومنها:
ثالثاً: لقد أشار بقوله: " فكيف بهدر دم قتيلهم؟ " إلى إنكاره لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقتل مسلم بكافر " وهو صحيح أيضاً، رواه البخاري وغيره عن علي، والترمذي وغيره عن ابن عمرو وغيرهما، وهو مخرَّج في " الإرواء " (2208 2209)، وبه أخذ جمهور العلماء، ومنهم ابن حزم في " المحلَّى " الذي قلده فيما أخطأ؛ وفي إبطاله لحديث (المعازف)، ولم يقلده هنا وقد أصاب! فاعتبروا يا أولي الألباب.
وأما الحديث الذي يذكره بعض الكتاب المعاصرين كالمودودي رحمه الله تقليداً لمذهبه الحنفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بذميِّ! فهو منكر لا يصح كما قال بعض الأئمة، وقد تكلمت عليه في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " برقم (460) مفصَّلاً.
ثم إنني لأتساءل أنا وكل ذي لب منصف: لِمَ أهدر الشيخ الغزالي العمل بهذا الحديث الصحيح وهو موافق لعموم قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون)؟ وإن كان قد سيق في غير هذا السياق، فإن الغزالي نهم في التمسك بعموم القرآن ولو كان مخصصاً بالأحاديث النبوية! والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما تقدم قريباً من إنكاره على كافة العلماء محدِّثين وفقهاء جعلهم ديّة المرأة على النصف من دية الرجل، ونسبهم إلى مخالفتهم لظاهر الكتاب يعني قوله تعالى: (النفس بالنفس)!
¥