وسوف أستعرض معكم بعض المواقف التي فيها شِدّة وقوّة في الإنكار، ولا تعارض بينها وبين هذه الآية، كما لا تعارض بين أمر موسى – عليه الصلاة والسلام – بالقول الليّن، وبين شدّته على فرعون وقوّة لفظه وجزالة خطابه معه.
وهذه بعض المواقف من حياته صلى الله عليه على آله وسلم
والشدّة تكون مع الكافر وتكون مع المسلم.
اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط! سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا. لقد صبرنا منه على أمر عظيم. فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال عبد الله بن عمرو: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح. فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع! حتى إن أشدهم فيه وَصَاة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً، فو الله ما كنت جهولا! قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
أليست هذه شِدّة وغِلظة؟
ولو قيلت اليوم لكافر لعُدّ ذلك من الغِلظة والتنفير!
ومن أشد ما رأيت مواقف الصحابة يوم الحديبيبة مع أنهم ليسوا في موقف قوة، ولكن ردودهم وأقوالهم كانت هي القويّة.
في يوم الحديبية أرسلت قريش رُسلها لمفاوضة النبي صلى الله عليه على آله وسلم، فلم تُفلح تلك الجهود قام عروة بن مسعود الثقفي – وكان مشركا - فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟
قالوا: بلى.
قال: أوَ لست بالولد؟
قالوا: بلى.
قال: فهل تتهمونني؟
قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلّحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟
قالوا: بلى.
قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه.
قالوا: ائته، فأتاه فجعل يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لِبُدَيْل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يَفِرُّوا ويدعوك!
فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات! أنحن نفرّ عنه وندعه؟
فقال عروة: من ذا؟
قالوا: أبو بكر.
قال عروة: أما والذي نفسي بيده لولا يَدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
وجعل عروة يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بِنَعْلِ السيف، وقال له: أخِّرْ يَدَكَ عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟
قالوا: المغيرة بن شعبة.
فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟
وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء. ثم إن عروة جعل يرمق أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه.
.....
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وَفَدْتُ على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملِكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فَدَلَكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ... الحديث. رواه البخاري.
أليست هذه أيضا شِدّة وغِلظة وقوّة؟
ولو قيلت اليوم لكافر لعُدّ ذلك من الغِلظة والتنفير!
¥