قال اليعمري: وهذا إسناد صحيح، وقال الإمام بَقِي بن مُخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا أبوبكر بن عياش حدثني عبد العزيز بن رفيع سمعت أبا محذورة قال: "كنت غلاماً صبياً فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين، فلما انتهيت إلى حي على الفلاح، قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم"، ورواه النسائي من وجه آخر عن أبي جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة وصححه ابن حزم.
ويمكن أن يقال بأن ما دل على أن التثويب يقال في الأذان الأول، وما دل على أنه يقال في الأذان الثاني، وقع أولاً في الأذان الأول ثم استقر الأمر على أن يقال في الأذان الثاني، إعمالاً لجميع الأدلة في ذلك كل في وقته، ويحتمل أن المراد بالأذان الأول الذي ذكر فيه ذلك، الدلالة على أن هذه الجملة تقال في الأذان لا في الإقامة، لأن الإقامة تسمى أذاناً ثانياً، وأنها يطلق عليها مع الأذان الأذان الثاني).
وسئل الشيخ العثيمين رحمه الله عن كلمة "الصلاة خير من النوم" هل هي في الأذان الأول أوفي الأذان الثاني؟ فأجاب: (كلمة "الصلاة خير من النوم" في الأذان الأول كما جاء في الحديث: "فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل: الصلاة خير من النوم"، فهي في الأذان الأول لا الثاني.
ولكن يجب أن يُعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث؟ هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت، والأذان الثاني هو الإقامة، لأن الإقامة تسمى "أذاناً".
إلى أن قال: أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس أذاناً للفجر، فالناس يسمون أذان آخر الليل الأذان الأول لصلاة الفجر، والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم"، أي لأجل النائم يقوم ويتسحر، والقائم يرجع ويتسحر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: "إذا حَضَرَت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"، ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر، إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر.
وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم "الصلاة خير من النوم" في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب.
وأما من توهم بأن المراد بالأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس له حظ في النظر.
قال بعض الناس: الدليل أن المراد به الأذان الذي يكون في آخر الليل لأجل صلاة النافلة أنه يقول: "الصلاة خير من النوم"، وكلمة "خير" تدل على الأفضل).32
الخلاصة
الذي يترجح لدي من الأدلة وأقوال الأئمة السابقة وغيرها أن "الصلاة خير من النوم" تقال في أذان الصبح الثاني وليس الأول، وذلك للآتي:
أولاً: الأحاديث التي ورد فيها التصريح بأن "الصلاة خير من النوم" تقال في الأذان الأول فيها شيء من الاضطراب كما وضح ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، وما سلم منها أوِّل بأن المراد بالأذان الأول الأذان الثاني، نسبة للإقامة التي يطلق عليه أذاناً، ومن أهل العلم من رجح نسخ ذلك، فبعد أن كانت تقال في الأذان الأول استقرت في الأذان الثاني، ويدل على ذلك استمرار الناس عليه في معظم ديار الإسلام إلا من شذ.
الثاني: النظر الصحيح يدل على ذلك، فليس هناك شيء يمنع عن النوم المباح إلا شيء واجب، وهو دخول وقت الصبح.
الثالث: ما تعارف عليه الناس وألفوه في جل بقاع العالم الإسلامي يدل على رجحان ذلك.
الرابع: قول ذلك في الأذان الأول بعد استقراره في الأذان الثاني يؤدي إلى مفسدة أكبر وضرر أعظم خاصة في شهر رمضان، حيث يمتنع البعض عن الأكل والشرب بمجرد سماعه للصلاة خير من النوم، ولو كان بين ذلك وبين طلوع الفجر أكثر من ساعة، وفي ذلك حرج كبير وإثم عظيم.
الخامس: تجويز بعض أهل المذاهب – المالكية – أن يكون التثويب في أي منهما يدل على أن الأمر فيه سعة كما قال ابن شاس.
السادس: ترجيح كبار العلماء المعاصرين – أعضاء اللجنة الدائمة للفتوى في المملكة العربية السعودية وسماحة الشيخ العثيمين رحمه الله وغيرهم لقول ذلك في الأذان الثاني من الأسباب الرئيسة لصحة هذا القول.
سابعاً: ترك بعض السلف لسنة صحيحة لمخالفتها لعادة أهل بلد زاره يرجح الاستقرار والاستمرار على ما اعتاده الناس خاصة فيما يستند على دليل من الخبر والنظر.
ثامناً: إذا كانت المدة بين الأذان الأول والثاني قدر أن يطلع هذا وينزل هذا كما هي السنة فيكون الخلاف خلافاً لا قيمة له.
اللهم اشرح صدورنا لما اختلف فيه من الحق، وصلِّ وسلم على محمد الذي لم يُخيَّر بين أمرين ألا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً أوقطيعة رحم، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.