نذكّر أنفسنا وإيّاكم بشكر الله تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)) [البقرة:152] .. أن تشكر الله تعالى الّذي وفّقك لبلوغ هذا الشّهر .. شهر الصّبر، شهر الطّاعة والشّكر، شهر الإنابة والذّكر .. فكم من قلوب اشتاقت وحنّت للقاء هذا الشّهر فانقطع بها القدر، وانقطع عنها الأثر .. صاروا اليوم في القبور واللّحود، وما عادوا من أهل الوجود ..
وكم من أناس رأيناهم تفانوا فلم يبق منهم قريب
وصاروا إلى حفرة تحتوي ويُسلم فيها الحبيبَ الحبيبُ
لقد أراد الله تعالى أن تكون هذه السّنة ممّن يزدادون تقرّبا منه تعالى بصوم شهر رمضان وقيام ليله .. ولو قيل لأهل القبور تمنّوا لتمنّوا يوما من رمضان .. ويدلّ على ذلك ما رواه الطّبرانيّ في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بقبر فقال: ((مَنْ صَاحِبُ هَذَا القَبْرِ؟)) فقالوا: فلان. فقال: ((رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ)).
فإذا كان هذا حال ركعتين فقط، فكيف بأيّام نهارها صيام، وليلها قيام، نهارها ذكر وخضوع، وليلها تهجّد وخشوع ..
وأضع هذا الحديث بين يديك، حتّى تتذكّر نعمة الله تعالى عليك، وهو ما رواه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
" كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ! فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: ((أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ سَنَةِ؟!)) ..
لذلك كان الصّحابة والتّابعون يسألون الله تعالى وصوله وبلوغه ..
لذلك ترى المؤمن لا يودّعه إلاّ وقلبه يحترق لوداعه .. فلعلّه لا يلقاه بعد عامه هذا ..
لذلك ترى المؤمنين في شوق وحينن إلى لقائه ..
قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: (كان من دعائهم: اللهمّ سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان).
فتذكّر يا من أدركت هذا الشّهر أنّك في نعمة من الله إليك أسداها .. ومنّة منه عليك أولاها .. فالهج بلسان الحال والمقال شاكرا للكبير المتعال، عندئذ ترى أنّ الله ربّ العبيد، قد آذنك بالمزيد: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) [إبراهيم:7] ..
الوصيّة الثّانية: تعرّضوا إلى نفحات الله تعالى ..
واستمع إلى نبيّك صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: ((إِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا)) [رواه الطّبراني من حديث محمّد بن مسلمة، انظر "صحيح الجامع"] .. هداية لا ضلال بعدها .. رُشد لا غيّ بعده .. عمل لا انقطاع عنه ..
فكم دخله من بعيد فقرّبه الله .. كم دخله من مسيء فتاب عليه الله .. كم دخله من محروم فأعطاه الله .. كم دخله من طريد فآواه الله .. كم دخله من فقير فأغناه الله .. شهر وأيّ شهر ..
ومن أراد أن تمسّه مثل هذه النّفحات: فعليه أن يعزم على العمل الصّالح، والبعد عن كلّ عمل طالح .. إذا وضعت قدمك على عتبة هذا الشّهر، فاعقد النية والعزم على أن تكون من السّابقين، فما نوى ذلك أحد إلاّ وفّقه الله، وتخيّل-ولعلّه الواقع-أنّه آخر شهر في حياتك، كما هي وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأهل الصّلاة: ((إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ)) [رواه أحمد وابن ماجه عن أبي أيوّب رضي الله عنه].
فكم من أقوام طرقوا باب رمضان ودخلوه، فما أنهوه ولا أكملوه، أدركهم آخره وما أدركوه، فمن نوى صالحا كتِبت لهم الحسنات والأجور، لأجل عزمهم على تجارة مع الله لن تبور ..
وأعظم الأعمال الصّالحة:
¥