وأكثر المفسرين يؤكدون على هذا المعنى, وهو أن الغنى وحده ليس موجبًا للطغيان, ولذلك يفسرون قول الله -عز وجل-: (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) أي: رأى نفسه, ومعنى الرؤية العلم, أي علم نفسه مستغنيًا, ولذلك فإن جملة "استغنى" مفعول ثان لرأى التي هي بمعنى عَلِمَ, وقالوا: إن ذلك لا يكون في غير أفعال القلوب.
وضرب الشنقيطي -رحمه الله- أمثلة كثيرة على أن الغنى وحده لا يوجب الطغيان، إنما الذي يوجبه ما يحدث في النفس من معاني الاستعلاء والاستغناء عن الله, والاستكبار وإيثار الحياة الدنيا، وغيرها من الآفات التي تورد الإنسان موارد الهلاك, وقد أشار -رحمه الله- إلى قول هارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص:78) , كما أشار إلى قول ثالث الثلاثة من بني إسرائيل: (إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ) (رواه مسلم) , وذلك بخلاف المسلم فلا يزيده غناه إلا تواضعًا وشكرًا للنعمة كما قال نبي الله سليمان: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40).
وقد بيَّن الله في نفس السورة أنه -عليه السلام- شكر الله -عز وجل-؛ قال -تعالى-: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:19).
وقد كان في أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- من هم من أصحاب المال الوفير, فلم يزدهم ذلك المال إلا قربة لله كعثمان, وابن عوف, وغيرهم -رضي الله عنهم-.
كيف النجاة إذن من الطغيان بكل أنواعه: طغيان المال, أو العشيرة, أو العلم, أو الجاه, أو القدرة؟
هو في علاج النفس, هو في علاج القلب من تلك الآفات, وأن يشاهد العبد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه, ويتضرع لله, ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين, وأن يعينه في جميع أموره, وعلى العبد أن يستصحب هذا المعني في كل وقت, حتى يفوز بالإعانة الكاملة من ربه الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها، قال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر:15 - 17).
قال ذو النون: "الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة, فكيف لا ووجودهم به؟! ".
وقال سهل: "لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى, ولهم بالفقر, فمن ادعى الغنى حُجِب عن الله, ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه".
وقال الواسطي: "من استغنى بالله لا يفتقر, ومن تعزز بالله لا يذل"، وعلى قدر افتقار العبد إلى الله يكون غناه بالله, وكلما ازداد افتقارًا إليه ازداد غنى به.
وقال النسفي -رحمه الله- في شرحه للآية السابقة: "إن الله لم يسمهم بالفقراء للتحقير, بل للتعريض على الاستغناء, ولهذا وصف نفسه بالغَنِيِّ الذي هو مُطعِم الأغنياء, وذكر الحميد ليدل على أنه الغني النافع بغناه خلقه, والجواد المنعم عليهم, إذ ليس كل غني نافعًا بغناه إلا إذا كان جوادًا منعمًا, وإذا جاد وأنعم حمده المُنْعَمُ عليهم".
ويقول الزمخشري: "فإن قلتَ: لم عرَّف الفقراء -أي عرف الكلمة بالألف واللام-؟ قلتُ: قصد بذلك أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء, وإن كانت الخلائق كلها مفتقرة إليه من الناس وغيرهم؛ لأن الفقر مما يتبع الضعف, وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر, وقد شهد الله على الإنسان بالضعف في قوله: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء:28) , وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (الروم:54).
فإن قلتَ: قد قوبل الفقراء بالغني فما فائدة الحميد؟ قلتُ: لما أثبت فقرهم إليه, وغناه عنهم, وليس كل غني نافعًا بغناه إلا إذا كان الغني جوادًا مُنْعِمًَا, فإذا جاد وأنعم حمده المنعَمُ عليهم, واستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه على ألسنة مؤمنيهم" الزمخشري "الكشاف".
¥