تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المالية، وكثيرًا ما كان الخليفة أو الأمير يَتَفَقَّد بنفسه المرضى، ويُشرف على حسن معاملتهم.

هذا هو النظام السائد في جميع المستشفيات التي كانت قائمة في العالم الإسلامي، سواء في المغرب أم المشرق، في مستشفيات بغداد ودمشق، والقاهرة والقدس، ومكة والمدينة، والمغرب والأندلس، وسنقتصر في حديثنا على أربع مستشفيات في أربع مدن من عواصم الإسلام في تلك العصور:

الأول: المستشفى العضدي ببغداد: بناه عضد الدولة بن بويه عام 371هـ، بعد أن اختار الرازي الطبيب المشهور مكانه، بأن وضع أربع قطع لحم في أربعة أنحاء ببغداد ليلاً، فلما أصبح وجد أحسنها رائحة في المكان الذي أقيم عليه المستشفى فيما بعد، فأقام المستشفى وأنفق عليه مالاً عظيمًا، وجمع له منَ الأطباء أربعة وعشرين طبيبًا، وألْحَقَ به كل ما يحتاج إليه من مكتبة علميَّة وصيدلية ومطابخ ومخازن، وفي عام 449هـ جدَّد الخليفة القائم بأمر الله هذا المستشفى، وجمع فيه منَ الأشربة والأدوية والعقاقير التي يعز وجودها كثيرًا.

الثاني: المستشفى النوري الكبير بدمشق: أنشأه السلطان المَلِك العادل نور الدِّين الشَّهيد سنة 549 هـ، 1154م من مالٍ أخذه فدية من أحد ملوك الفرنج، وكان حين بنائه من أحسن ما بُني منَ المستشفيات في البلاد كلها، شرط فيه أنَّه على الفقراء والمساكين، وإذا اضطر الأغنياء إلى الأدوية التي فيه يسمح لهم بها، وكان الشَّراب فيه والدواء مباحًا لكل مريض يقصده.

وقد استمرَّ هذا المستشفى يقوم بعمله العظيم حتى سنة 1317هـ، حيث أنشئ مستشفى الغرباء، وهو المستشفى الذي تشرف عليه الآن كلية الطب في الجامعة السُّورية، فأقفل المستشفى النوري، ثم استعمل مدرسة أهلية.

الثالث: المستشفى المنصوري الكبير: المعروف بمارستان قلاوون، كان دارًا لبعض الأمراء، فحوَّلها الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى مستشفى عام 683هـ، 1308م، وأوقف عليه ما يغل عليه ألف درهم في كل سنة، ألحق به مسجدًا ومدرسة ومكتبًا للأيتام، وأدَّى هذا المستشفى عمله الإنْسَاني الجليل حتى أخبر أطباء العيون الذين عملوا فيه: أنه كان يُعالَج فيه كلَّ يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين الخارجين أربعة آلاف نفس، ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يُعطى كسوة للباسه ودراهم لنفقاته؛ حتى لا يضطر للالتجاء إلى العمل الشاقِّ فور خروجه.

ومن أروع ما فيه أيضًا النصُّ في وقفيّته على أن يُقدم طعام كل مريض بزبدية خاصَّة به، من غير أن يستعملها مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشَّكل.

الرابع: مستشفى مراكش: وهو الذي أنشأه أمير المؤمنين المنصور أبو يوسف من ملوك الموحدين بالمغرب، تخيَّر ساحة فسيحة في مراكش بأعدل موضع فيها، وأمر البَنَّائين بإتقانه على أحسن الوجوه، وأمر أن يغرسَ فيه من جميع الأشجار والمشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرةً تدور على جميع البيوت زيادة على أربع برك في وسط إحداها رخام أبيض، ثم أَمَرَ له منَ الفرش النَّفِيسة من أنواع الصُّوف والكِتَّان والحرير والأديم وغيره ما لا يُوصَف، وأقام فيه الصَّيادِلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدَّ فيه للمريض ثياب ليل ونهار من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نَقِه المريض، فإن كان فقيرًا أمر له عند خروجه بمالٍ يعيش به ريثما يعمل، وإن كان غنيًّا دفع إليه ماله، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كان مَن مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولِج حتى يشفى أو يموت، وكان في كل جمعة يزوره ويعود المرضى، ويسأل عن أحوالهم وعن معامَلة الأطباء والمُمَرضين لهم.

وبعدُ، فهذه نماذج أربعة من مئات المستشفيات التي كانت منتشرةً في شرق العالم الإسلامي وغربه، يوم كانتْ أوروبة تَتِيه في ظلام الجهل، ولا تعرف شيئًا من هذه المستشفيات ودقتها ونظافتها، وسُمُو العاطفة الإنْسَانية فيها، وإليك ما قاله المستشرق الألماني ماكس مايرهوف عن حالة المستشفيات في أوروبا، في العصر الذي كانتْ فيه المستشفيات في حَضَارتنا كما وصفناها، قال الدكتور ماكس: "إنَّ المستشفيات العَربية ونُظُم الصِّحة في البلاد الإسلاميَّة الغابرة لتلقي علينا الآن درسًا قاسيًا مُرًّا، لا نقدره حق قدره إلا بعد القيام بمقارنة بسيطة مع مستشفيات أوروبا في ذلك الزمن نفسه"، مرَّ أكثر من ثلاثة قرون

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير