فالله تعالى قد أتمّ علينا منّته، وأسبغ علينا نعمته، بأن اصطفى لنا هذا الدّين: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: من الآية3] .. لذلك روى الإمام أحمد والدّارمي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، وفي رواية-بنسخة من التّوراة- فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَغَضِبَ، فَقَالَ: ((أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ!؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى ? كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)).
[متهوّكون: أي: أمتحيرون ومتردّدون في سنّتي حتّى تأخذوه من أهل الكتاب؟].
هذا حكم من نظر في التّوراة الّتي جاء بها موسى عليه السلام ..
والّتي يُعدّ الإيمان بها من أركان الإيمان ..
والنّاظر فيها من؟ إنّه عمر الفاروق الّذي قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الشّيطان ليفرق منك يا عمر))، والذّي قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((إن يكن في هذه الأمّة محدّثون فعمر)) .. ومع ذلك يلقى اللّوم والعتاب من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ..
هذا في جانب الشّبهات ..
أمّا في جانب الشّهوات، فانظر كيف حرّم الله تعالى إشاعة الفاحشة، فحرّم اتّهام النّاس في أعراضهم بالزّنا، وضيّق الباب فجعل الشّهادة لا تتقبل إلاّ بنصاب، أربعة شهداء من العدول الأنجاب، ولو أقسم ثلاثة أنّهم رأوا جريمة الزّنا لنالهم من الله العقاب، وأشدّ العذاب، فقال الله تعالى بعد أن ذكر حدّ القذف وهو ثمانون جلدة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] ..
ومعنى شيوع الفاحشة: هو التحدّث بها، وإذاعتها، بأن يردّد الناس ما يحدث من جرائم الزّنا واللّواط، وغير ذلك.
ثانيا: الحجر على صاحب الإعلام الخبيث ولو بالقتل إن اقتضى الأمر ذلك ..
فلذلك كان حدّ المرتدّ القتل، لئلاّ يثير الشّبهات على عقول المؤمنين.
وكذلك كان حكم سابّ الدّين والمستهزئ بالدّين أنّه كافر، حلال الدّم، وخاصّة إذا تعلّق الأمر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: ((اقْتُلُوهُ)).
وذلك أنّ هذا الرّجل كان يؤذي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنشر الأشعار الذامّة له.
هذا من جانب الشّبهات، أمّا من جانب الشّهوات: فلا يخفى على أحد أنّ الّذي يجهر بالمعاصي يحدّ أو يعزّر، فكيف بمن دعا إليها، وأشاعها؟
ولمّا كان الشّعر من أهمّ وسائل الإعلام ذلك الزّمان، أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتل الشّعراء الّذين كانوا يتشبّبون ويتغزّلون بنساء المسلمين.
ولذلك أيضا أجمع العلماء على تحريم سماع الأشعار الّتي بها وصف للنّساء والخمور وغير ذلك من المحرّمات.
ومضى على هذا السّبيل خير القرون، فكانوا يُشدّدون العقاب على من يشتري ويقتني الكتب الّتي تنشر أقوالا تخالف ما عليه شريعة الله، وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
بل مجرّد التحدّث في دين الله تعالى بغير علم كان جزاءه الضّرب الشّديد كما حدث لصبيغ الّذي ضربه عمر ثلاثة أيّام لأجل أنّه كان يتحدّث فيما لا يعنيه.
¥