طفل توفي في العاشرة من عمره، هذا الطفل لو قُدِّر له العيش حتى يتزوج، ويكون له أولاد، لكانت تلك الذرّية ممن أُتيحت لها هذه الفرصة العظيمة، فلمّا قدّر الله أن يقبض هذا الطفل في هذه السنّ، علمنا أنه قد فاتتهم هذه النعمة العظمى، وذلك أن الله علم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف سيكون، ودليل ذلك قول الحقّ تبارك وتعالى عن أهل الكفر والشرك:} ولو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون {{الأنعام الآية28}، وقوله جلّ وعلا:} لو كان فيها آله إلا الله لفسدتا فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون {{الأنبياء الآية22}.
وأما النعمة الثانية فهي نعمة العقل:
وذلك أن العقل مناط التكليف، به يفرّق الإنسان بين الحق والباطل، وبين سبيل الهداية وسبيل الغواية، وللعقل في الإسلام مكانة لا تُجحد، ومنزلة لا تُغفل، ولهذا نجد أن الله تعالى يخاطب أهل العقول في آيات كثيرة من القرآن الكريم، ممتنّا عليهم بهذه النعمة، كما قال تعالى:} أفلا تعقلون {{البقرة آية44}، وقال تعالى:} لعلكم تعقلون {{الحديد آية17}، وقال جلّ في علاه:} إنما يتذكّر أولوا الألباب {{الزمر آية9}، وقال جلّ ذكره:} وأولئك هم أولوا الألباب {{الزمر آية18}، وقال سبحانه:} إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب {{الزمر آية21}، وقال تعالى:} هل في ذلك قسم لذي حجر {{الفجر آية5}.
وإذا أراد الإنسان أن يعرف قدر هذه النعمة، فليعقِد مقارنة بين إنسان عاقل وآخرَ فاقدٍ للعقل، بين الإنسان وسائر البهائم والدّواب، بله الجمادات، ليقف على حجم هذه الهبة، وعظمةِ هذا المخلوق، الذي أعجز العقلاء عن إدراك حقيقته، وأعيا النظّار عن تصوّر ماهيته، فأضحى من أقوى الأدلّة الدّالة على إثبات وجود الخالق سبحانه، والذي ينكره الماديّون بحجّة عدم إدراك الحواس له (4).
وأما النعمة العظمى والمنة الكبرى فهي: نعمة الإسلام
فهي رأس مال المسلم، وبها يفترق عن الكافر والمشرك، واللّذان يشتركان معه في نعمة الوجود، ونعمة العقل، ونعمة الرزق، وغيرها من النعم، إلا أن المسلم ينفرد بنعمة الإسلام، بنعمة «لا إله إلا الله»، فهي نعمة تستوجب منّا أن نُمَرِّغ وُجوهَنا، وجِباهَنا، وأُنوفَنا، شكراً لله رب العالمين.
وذلك أنه كان من الممكن عقلاً، أن يكون الله ـ جلّ في علاه ـ قدّر في علمه السابق، أن نُوجد يهوداً، أو نصارى، أو وثنيين، أو ملحدين، ولا مانع من ذلك البتة، إذ لا مُوجب على الله، ولكن بمحض فضل الله تعالى، ومحض نعمته وجوده، أكرمنا وجعلنا مسلمين فـ:} الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق {{الأعراف آية43}.
فنعمة الإسلام، ونعمة «لا إله إلا الله»، تَنعدِم أمامها نعمةُ الوجود، ونعمة العقل، ولهذا الكافر مهما بلغ في هذه الحياة الدنيا من مراتب، ومهما أوتي من مال، وقوّة، و ذكاء، وفطنة، وجاه، وجمال، إلا أنه يقول يوم القيامة:} يا ليتني كنت تراباً {{النبأ آية40}.
فنعمة «لا إله إلا الله» لا تُقدَّر بثمن، ولا توضع في ميزان، فعن النبي ×: «أن موسى ÷ قال: يا ربّ علّمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال الله تعالى: يا موسى قل: لا إله إلا الله، قال موسى: يا ربّ، كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله» (5).
ولأجل هذا، فرّق الشارع الحكيم في الحكم، بين الكافر الأصلي، وبين المرتد؛ فجعل الأول على أقسام منه: المعاهد، والذميّ، والمستأمن، والمحارب، وجعل لكلٍّ حكماً يناسبه، فأما المرتد فجعل حكمه ضربة بالسيف، كما قال ×: «من بدّل دينه فاقتلوه» أخرجه البخاري عن ابن عباس ب (6)، لأنه شخص تنكّر للجميل وبدل نعمة الله كفراً، مثله مثل شخص أهديت له طِيبا فردّ إليك نتَنًا، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
ولأزداد أنا وأنت ـ أخي في الله ـ استشعارًا لهذه النعمة، التي لا تَعدِلها نعمة في هذا الوجود، أقول:
اعلم - رحمني الله وإياك - أن هذه النعمة، وهي نعمة الإسلام، ونعمة «لا إله إلا الله»، حُرِمها أقربُ الناس إلى أفضلِ خلق الله، وأكرمِهم عليه، أنبياءِه ورُسُلِه عليهم أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم, منهم أبو إبراهيم؛ آزر، وامرأة نوح؛ وابنه، وامرأة لوط؛، ووالدا النبي ×.
¥