والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك، إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل، ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته، ولأن ما بعد البلوغ، وإن سمي صاحبه يتيماً مجازاً، فغايته أن يكون داخلاً في العموم. وأما أن يكون المراد باليتيمة: البالغة، دون التي لم تبلغ، فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال، والله أعلم " اهـ باختصار من مجموع الفتاوى [32/ 44 - 46].
قلت: الذي يظهر لي، والله تعالى أعلم، أن اليتيمة البكر تزوج، كما نصت عليه الآيات، وكما في حديث " إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها " وحديث " تستأمر اليتيمة في نفسها ".
لكن هل تجبر على النكاح؟
الصواب أنها لاتجبر لهذين الحديثين، ولعموم الأحاديث الأخرى في استئذان البكر واستئمار الثيب، وليس في الآيات ما يدل على أنها تجبر، ولا إجماع على ذلك، فنقول: لا تجبر على النكاح.
لكن كيف يصح أن تستأذن أو تستأمر وهي لا تعقل؟
نقول: إذا بلغت سناً تعقل فيه وتستأذن فيه، ويكون لها فيه رأي وقول، فإنها حينئذ تزوج بإذنها، وقد تقدم قول ابن قدامة أنها إذا بلغت تسعاً، وكلام ابن تيمية يشير إلى ذلك، بخلاف الصغيرة التي لها أب، فإنها تزوج ولو كانت في المهد، لكن ذلك متوقف على وجود الغبطة والمصلحة للصغيرة، وكون الزوج كفؤاً لها غير معيب. والله أعلم.
القسم الثالث: الثيب الصغيرة. التي لم تبلغ ولها أب.
ذكر ابن قدامة في المغني [9/ 407] في حكم تزويج الثيب الصغيرة وجهين، أحدهما: لا يجوز تزويجها، وهو مذهب الشافعي، لعموم الأخبار، ومنها " الثيب أحق بنفسها من وليها " و " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ". ولحديث الخنساء بنت خدام الأنصارية: أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه " رواه البخاري وغيره. انظر جامع الأصول [11/ 463].
" ولأن الإجبار يختلف بالبكارة والثيوبة، لا بالصغر والكبر، وهذه ثيب، ولأن في تأخيرها فائدة، وهو أن تبلغ فتختار لنفسها ويعتبر إذنها، فوجب التأخير، بخلاف البكر " كذا قال ابن قدامة.
ثم ذكر الوجه الثاني: أن لأبيها تزويجها ولا يستأمرها، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لأنها صغيرة، فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة، وتحمل الأحاديث المتقدمة على الثيب الكبيرة.
قلت: من نظر إلى أن مناط الإجبار (أي الوصف الذي علق به جواز الإجبار) هو الصغر، كما هو مذهب الحنفية والمالكية، لم يفرق بين الثيب والبكر، سواء زوجها أبوها أو غيره. ومن جعل مناط الإجبار هو: البكارة والصغر معاً، فرّق بين البكر الصغيرة والثيب الصغيرة، فأجاز إجبار الأولى دون الثانية.
والصواب في هذا عندي أن ينظر في عموم النصوص الدالة على منع تزويج الثيب إلا بأمرها، وهل لهذا العموم مخصِّص؟.
الذي يظهر لي أنه لا مخصِّص له من نص أو إجماع، فإن من حكى الإجماع كابن المنذر إنما حكاه عن البكر الصغيرة، لا الثيب.
وأما ابن عبد البر فإنه حكى الإجماع، وأطلق الصغيرة دون تخصيص البكر، لكن سياق كلامه بعد ذلك يدل على أن المقصود البكر لا الثيب. والله أعلم.
وعلى هذا نقول: إن الصغيرة الثيب لا يجبرها أبوها على النكاح. والله أعلم.
القسم الرابع: الثيب الصغيرة اليتيمة
قلت: وهذه أولى في المنع من إجبارها من الثيب الصغيرة التي لها أب، لعموم حديث " الثيب أحق بنفسها " ولم يخص الصغيرة.
واليتيمة ورد فيها أحاديث تخصها، كما تقدم، وهي " إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها " و " تستأمر اليتيمة في نفسها ". والله تعالى أعلم.
القسم الخامس: البكر البالغ
وهذه قد اختلف في حكم إجبارها اختلافاً كبيراً، فممن رأى إجبارها إذا زوّجها أبوها: الإمام أحمد في رواية، والشافعي ومالك.
وممن منع ذلك: الإمام أحمد في رواية أخرى، والأحناف والظاهرية. انظر المغني [9/ 399] والمحلى [9/ 460] وفقه السنة [3/ 130].
وقد بوب البخاري في صحيحه [12/ 318] بقوله " باب لا يجوز نكاح المكره " ثم استدل بحديث الخنساء بنت خدام، وحديث استئذان البكر.
وقال ابن عبد البر " واختلفوا في الأب: هل يجبر ابنته الكبيرة البكر على النكاح أم لا؟.
¥