قَالَ الْخَطَّابِيُّ: خَبَر أَنَس (هَذَا): يَدُلّ عَلَى جَوَاز لُبْس النَّعْل لِزَائِرِ الْقُبُور وَلِلْمَاشِي بِحَضْرَتِهَا وَبَيْن ظَهْرَانَيْهَا، فَأَمَّا خَبَر السِّبْتِيَّتَيْنِ (الَّذِي مَضَى): فَيُشْبِه أَنْ يَكُون إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْخُيَلَاء، وَذَلِكَ أَنَّ نِعَال السِّبْت مِنْ لِبَاس أَهْل التَّنَعُّم وَالتَّرَفُّه، وَأَحَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ أَنْ يَكُون دُخُوله الْمَقَابِر عَلَى زِيّ أَهْل التَّوَاضُع وَلِبَاس أَهْل الْخُشُوع اِنْتَهَى. قَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح: وَأَمَّا قَوْل الْخَطَّابِيِّ يُشْبِه أَنْ يَكُون النَّهْي عَنْهُمَا لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْخُيَلَاء فَإِنَّهُ مُتَعَقَّب بِأَنَّ اِبْن عُمَر كَانَ يَلْبَس النِّعَال السِّبْتِيَّة وَيَقُول إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسهَا وَهُوَ حَدِيث صَحِيح وَأَغْرَبَ اِبْن حَزْم فَقَالَ: يَحْرُم الْمَشْي بَيْن الْقُبُور بِالنِّعَالِ السِّبْتِيَّة دُون غَيْرهمَا وَهُوَ جُمُود شَدِيد اِنْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَالْحَدِيث أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالنَّسَائِيُّ.
تَعْلِيقُ الْحَافِظِ ابْنِ الْقَيِّمِ:
عَنْ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيث وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه: حَدِيث بَشِير: إِسْنَاده جَيِّد، أَذْهَب إِلَيْهِ، إِلَّا مِنْ عِلَّة. وَأَمَّا تَضْعِيف حَدِيث بَشِير: فَمِمَّا لَمْ نَعْلَم أَحَدًا طَعَنَ فِيهِ بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد: إِسْنَاده جَيِّد.
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن عُثْمَان يَقُول فِيهِ: حَدِيث جَيِّد وَرَجُل ثِقَة. وَأَمَّا مُعَارَضَته بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّهُ لَيَسْمَع قَرْع نِعَالهمْ " فَمُعَارَضَة فَاسِدَة فَإِنَّ هَذَا إِخْبَار مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَاقِعِ وَهُوَ سَمَاع الْمَيِّت قَرْع نِعَال الْحَيّ، وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى الْإِذْن فِي قَرْع الْقُبُور وَالْمَشْي بَيْنهَا بِالنِّعَالِ، إِذْ الْإِخْبَار عَنْ وُقُوع الشَّيْء لَا يَدُلّ عَلَى جَوَازه وَلَا تَحْرِيمه، وَلَا حُكْمه. فَكَيْف يُعَارَض النَّهْي الصَّرِيح بِهِ؟
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى أَنْ تُوطَأ الْقُبُور " وَقَدْ رَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي الْخَيْر عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأَنْ أَمْشِي عَلَى جَمْرَة أَوْ سَيْف، أَوْ أَخْصِف نَعْلِي بِرِجْلِي أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِي عَلَى قَبْر مُسْلِم وَمَا أُبَالِي أَوَسْط الْقَبْر - كَذَا قَالَ - كَذَا قَالَ - قَضَيْت حَاجَتِي، أَوْ وَسْط الطَّرِيق "
وَعَلَى هَذَا: فَلَا فَرْق بَيْن النَّعْل وَالْجُمْجُم وَالْمَدَاس وَالزُّرْبُول.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: ذَلِكَ مُخْتَصّ بِالنِّعَالِ السِّبْتِيَّة لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرهَا. قَالَ: لِأَنَّ الْحُكْم تَعَبُّدِيّ غَيْر مُعَلَّل، فَلَا يَتَعَدَّى مَوْرِد النَّصّ.
وَفِيمَا تَقَدَّمَ كِفَايَة فِي رَدّ هَذَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 112)
(فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ تَحْتَ حَدِيثِ بَشِيرٍ هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَشْيُ بَيْنَ الْقُبُورِ بِالنَّعْلَيْنِ، وَلَا يَخْتَصُّ عَدَمُ الْجَوَازِ بِكَوْنِ النَّعْلَيْنِ سِبْتِيَّتَيْنِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا. وَقَالَ اِبْنُ حَزْمٍ: يَجُوزُ وَطْءُ الْقُبُورِ بِالنِّعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ سِبْتِيَّةً لِحَدِيثِ: أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ. وَخَصَّ الْمَنْعَ بِالسِّبْتِيَّةِ، وَجَعَلَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّ سَمَاعَ الْمَيِّتِ لِخَفْقِ النِّعَالِ لَا
¥