وَهُوَ وَهْم لِأَنَّ سَمَاع الْمَيِّت لِخَفْقِ النِّعَال لَا يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون الْمَشْي عَلَى قَبْر أَوْ بَيْن الْقُبُور فَلَا مُعَارَضَة.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ النَّهْي عَنْ السِّبْتِيَّة لِمَا فِيهَا مِنْ الْخُيَلَاء، وَرُدَّ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسهَا اِنْتَهَى.
قَالَ الْعَيْنِيّ: إِنَّمَا اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالْخَلْعِ اِحْتِرَامًا لِلْمَقَابِرِ، وَقِيلَ لِاخْتِيَالِهِ فِي مَشْيه وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ إِنَّ أَمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَلْعِ لَا لِكَوْنِ الْمَشْي بَيْن الْقُبُور بِالنِّعَالِ مَكْرُوهًا، وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَذَرًا فِيهِمَا يُقَذِّر الْقُبُور أَمَرَ بِالْخَلْعِ اِنْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَالْحَدِيث أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ.
تَعْلِيقُ الْحَافِظِ ابْنِ الْقَيِّمِ:
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين ابْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه: وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، فَضَعَّفَتْ طَائِفَة حَدِيث بَشِير.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ جَمَاعَة عَنْ الْأَسْوَد بْن شَيْبَانَ، وَلَا يُعْرَف إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَدْ ثَبَتَ
قَالَ الْمُجَوِّزُونَ. يُحْتَمَل أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بِنَعْلَيْهِ قَذَرًا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلَعهُمَا، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون كَرِهَ لَهُ الْمَشْي فِيهِمَا، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُيَلَاء، فَإِنَّ النِّعَال السِّبْتِيَّة مِنْ زِيّ أَهْل التَّنَعُّم وَالرَّفَاهِيَة، كَمَا قَالَ عَنْتَرَة: يَظَلّ كَأَنَّ ثِيَابه فِي سَرْجه نِعَال السَّبْت لَيْسَ بِتَوْأَمٍ
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيث شَيْء مِنْ ذَلِكَ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ نَهْي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجُلُوس عَلَى الْقَبْر، وَالِاتِّكَاء عَلَيْهِ، وَالْوَطْء عَلَيْهِ عَلِمَ أَنَّ النَّهْي إِنَّمَا كَانَ اِحْتِرَامًا لِسُكَّانِهَا أَنْ يُوطَأ بِالنِّعَالِ فَوْق رُءُوسهمْ وَلِهَذَا يَنْهَى عَنْ التَّغَوُّط بَيْن الْقُبُور وَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ الْجُلُوس عَلَى الْجَمْر حَتَّى تَحْرُق الثِّيَاب خَيْر مِنْ الْجُلُوس عَلَى الْقَبْر " وَمَعْلُوم: أَنَّ هَذَا أَخَفّ مِنْ الْمَشْي بَيْن الْقُبُور بِالنِّعَالِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَاحْتِرَام الْمَيِّت فِي قَبْره بِمَنْزِلَةِ اِحْتِرَامه فِي دَاره الَّتِي كَانَ يَسْكُنهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْقَبْر قَدْ صَارَ دَاره.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَسْر عَظْم الْمَيِّت كَكَسْرِهِ حَيًّا ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اِحْتِرَامه فِي قَبْره كَاحْتِرَامِهِ فِي دَاره، وَالْقُبُور هِيَ دِيَار الْمَوْتَى وَمَنَازِلهمْ، وَمَحَلّ تَزَاوُرهمْ، وَعَلَيْهَا تَنْزِل الرَّحْمَة مِنْ رَبّهمْ وَالْفَضْل عَلَى مُحْسِنهمْ فَهِيَ مَنَازِل الْمَرْحُومِينَ، وَمَهْبِط الرَّحْمَة، وَيَلْقَى بَعْضهمْ بَعْضًا عَلَى أَفْنِيَة قُبُورهمْ، يَتَجَالَسُونَ وَيَتَزَاوَرُونَ، كَمَا تَضَافَرَتْ بِهِ الْآثَار.
وَمَنْ تَأَمَّلَ كِتَاب الْقُبُور لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا رَأَى فِيهِ آثَارًا كَثِيرَة فِي ذَلِكَ.
فَكَيْف يُسْتَبْعَد أَنْ يَكُون مِنْ مَحَاسِن الشَّرِيعَة: إِكْرَام هَذِهِ الْمَنَازِل عَنْ وَطْئِهَا بِالنِّعَالِ وَاحْتِرَامهَا؟ بَلْ هَذَا مِنْ تَمَام مَحَاسِنهَا، وَشَاهِده مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَطْئِهَا، وَالْجُلُوس عَلَيْهَا وَالِاتِّكَاء عَلَيْهَا.
عون المعبود - (ج 7 / ص 217)
(قَرْع نِعَالهمْ)
: أَيْ صَوْتهَا عِنْد الْمَشْي
¥