تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإن كانت غاية الابتلاء غاية شرعية مقصودة لذاتها كما قال تعالى في الحديث القدسي للنبي صلى الله عليه و سلم (إني مبتليك و مبتل ٍ بك) (135) , و كانت هذه الغاية متحققة ً قبل الاستخلاف في الأرض فلا يقال بأن الخلافة هي الغاية الأصلية لأنها سُبقت بغاية قبلها كانت متحققة و لأن الاستخلاف في الأرض هو وسيلة لتحقيق هذه الغاية فلا يكون هو غاية في ذاته , و يدل على ذلك قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا ً جرزا) (136). فالله عز و جل ربط بقاء الكون ببقاء الابتلاء فإذا تعطلت غاية الابتلاء قامت الساعة و آن خراب الكون حيث قال صلى الله عليه و سلم: (لا تقوم الساعة و على الأرض من يقول الله الله) (137) , فإذا انقرض الإيمان و درس الإسلام و صار الناس كلهم أمة واحدة على الكفر و رفع علم الله من الأرض و كتابه فقد انتفت فاعلية الابتلاء و تعطلت آليته التي هي التردد بين الحق و الباطل لأنه قد ذهب الحق كله فعندها تقوم الساعة و تخرب الأرض و هذا يدلك على أن الابتلاء هو الغاية و ليس مجرد البقاء على الأرض و أن علاقة الانسان بالأرض هي " وسيلة لا تقصد لذاتها " فلا يقال بأن الله خلق الإنسان ليعمر الأرض بمعزل عن معنى الابتلاء فهذا فهم جاهلي أما المؤمن فيرى بأن خلافة الإنسان في الأرض هي ابتلاؤه فيها بإقامة العبودية لله.

3 - أن الفهم القائم على أن الأصل في حال آدم و ذريته هو البقاء في الجنة , هو فهم الأنبياء حيث قال موسى عليه السلام لآدم عندما لقيه: (أنت آدم الذي أخرجت الناس – وفي رواية: ذريتك - من الجنة بذنبك وأشقيتهم) (138) فكان يستقر في فهم موسى عليه السلام أن الأصل في آدم و ذريته أن يكونوا كلهم في الجنة ولم يعترض آدم على هذا الفهم و إنما اعترض على اللوم لأن النتيجة محسوسة , و يدلك على ذلك حزن آدم عليه السلام على من سيدخل النار من ذريته , لأنه جاء في بعض الروايات الصحيحة لحديث المحاجة: (أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة) (139) فلولا معصية آدم ما وقع أحد في الكفر و ما دخل أحد النار لأن الخروج كان مترتباً على معصية آدم و لهذا جاء عنه عليه الصلاة و السلام أنه رأى آدم في الإسراء فقال: (فلما علونا إلى السماء إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى) (140) , فلا يقال بأن آدم عليه السلام كان يبكي رأفة ببنيه لأنهم سوف يعذبون بالنار لأن الله عز و جل يقول: (فلا تأس على القوم الكافرين) (141) و يقول: (فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون) (142) و يقول: (ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم) (143) و يقول: (و لا تزر وازرة وزر أخرى) (144) و يقول (فكلاً أخذنا بذنبه) (145) و قال لنوح ٍ عندما سأله ابنه: (إنه ليس من أهلك) (146) و لكنه يبكي لأنه يستقر في اعتقاده أنه لو لم يعص ربه لكانوا كلهم في الجنة , ولكنه عصى فكان أولئك من أصحاب الجحيم , وهذا هو معنى قول موسى لآدم عليه السلام في أحد ألفاظ الحديث: (أنت آدم الذي أغويت الناس و أخرجتهم من الجنة؟) (147) فأنكر آدم اللوم و لم ينكر النتيجة القدرية لأنها واقع محسوس. و في هذه النقطة الأخيرة رد على من يرى أن الاستخلاف في الأرض كان تشريفا و تكريما لآدم عليه السلام و ذريته , بينما الصحيح أنه كان يبكي من تبعات هذا التشريف المزعوم و يسأل الله منه المغفرة!!! , والله أعلم.

4 - إن غايات الله المرعية هي في إراداته الشرعية فعندما يأتي نهي من الله عن أمر ما ثم يخبر تعالى بأن ذلك الأمر سوف يقع فهذا يدلك على أن هذا الإخبار هو إخبار عن إرادته الكونية القاضية بنفاذ ذلك الأمر على غير محبة من الله. و لو نظرت إلى مسألة الاستخلاف و قوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) (148) و هي الآية التي يستشهد بها كل من يريد تعظيم مسألة الخلافة على الأرض في نفوس الناس , لوجدت أنها من باب الإخبار عن شيء سيقع كوناً و ليست هي إرادة الله الشرعية المحبوبة عنده لأنه لا يرتبط بها أمر و لكن الأمر يرتبط بقوله تعالى (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) , و الأمر المعلوم عند من يبحث في علل النصوص هو أن الغايات و المقاصد ترتبط بإرادة الله الشرعية و ليس الكونية و لهذا تعلم بأن " غاية خلق الآدمي " لابد أن تكون متحققة في الجنة قبل النزول إلى الأرض لأن أمر الله و إرادته الشرعية كانت على أن يبقى آدم في الجنة و لا يخرج منها و غاية الله و مقصده من خلق آدم لابد أن تتحقق لأنه ما خلق شيئاً عبثا ً , فاستقراء الأمر ببساطة هو أن الله لا يخلق شيئاً إلا لغاية و أنه جعل آدم في الجنة و نهاه عن الخروج منها فدل هذا على أن بقاء آدم في الجنة غير معطل لغاية خلقه و من لا يوافق في هذا فإنه ينسب إلى الله العبث , فإذا كان الأمر كذلك فهذا يدل على أن غاية خلق آدم كانت متحققة قبل مسألة الاستخلاف و هذا يدل على أن استخلاف آدم في الأرض " أمر زائد على الغاية الأصلية من خلقه " , وهذا واضح جلي الوضوح , والله أعلم.

الهوامش:


(125) طه: 115 - 123
(126) متفق عليه
(127) البقرة: 35
(128) رواه الترمذي وحسنه و وافقه الألباني
(129) رواه البخاري
(130) متفق عليه
(131) البلد: 4
(132) هود 118 - 119
(133) رواه البيهقي قي الأسماء و قال الألباني: سنده حسن و هو صحيح بمجموع طرقه.
(134) رواه مسلم
(135) رواه مسلم
(136) الكهف: 7 - 8
(137) رواه مسلم
(138) رواه البخاري
(139) رواه مسلم
(140) متفق عليه
(141) المائدة: 68
(142) المؤمنون: 101
(143) البقرة: 119
(144) النجم: 38
(145) العنكبوت: 40
(146) هود: 46
(147) رواه مسلم
(148) البقرة: 30
(149) الذاريات: 56
(150) طه: 119 , 120

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير