الثامن عشر: قال:وهو أن يقال لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها لا يكون أخص منها ,والنتيجة أخص من الكبرى أومساوية لها وأعم من الصغرى أو مساوية لها كالحدود الثلاثة فإن الأكبر أعم من الأصغر أو مثله والأوسط مثل الأصغر أو أعم ومثل الأكبر أو أخص ولا ريب أن الحس يدرك المعينات أولا ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة؛ فإن الإنسان يرى هذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا الإنسان ,ويرى أن هذا حساس متحرك بالإرادة ناطق ,وهذا كذا وهذا كذا؛فيقضى قضاء عاما أن كل إنسان حساس متحرك بالإرادة ناطق.
فنقول العلم بالقضية العامة إما أن يكون بتوسط قياس أو بغير توسط قياس؛ فإن كان لا بد من توسط قياس ,والقياس لا بد فيه من قضية عامة لزم أن لا يعلم العام إلا بالعام ,وذلك يستلزم الدور أو التسلسل؛فلا بد أن ينتهى الأمر إلى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة وهم يسلمون ذلك.
وإن أمكن علم القضية العامة بغير توسط قياس؛ أمكن علم الأخرى؛فإن كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه؛بل هو أمر نسبى إضافي بحسب حال علم الناس بها؛فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له ,ومن احتاج إلى نظر واستدلال بدليل كانت نظرية له.
وكذلك كونها معلومة بالعقل أو الخبر المتواتر أو خبر النبي الصادق أو الحس ليس هو أمرا لازما لها بل كذب مسيلمة الكذاب مثلا قد يعلم بقول النبي الصادق إنه كذاب ,وقد يعلم ذلك من باشره ورآه يكذب ,ويعلم ذلك من غاب عنه بالتواتر ويعلم ذلك بالاستدلال؛فإنه ادعى النبوة وأتى يناقض النبوة؛فيعلم بالاستدلال. وكذلك الهلال قد يعلم طلوعه بالرؤية فتكون القضية حسية ,ويعلم ذلك من لم يره بالأخبار المتواترة فتكون القضية عنده من المواترات ,ويعلم ذلك من علم أن تلك الليلة إحدى وثلاثون بالحساب والاستدلال ,ومثل هذا كثير؛فالمعلوم الواحد يعلمه هذا بالحس وهذا بالخبر وهذا بالنظر ,وهذه طرق العلم لبني آدم ,وهكذا القضايا الكلية إذا كان منها ما يعلم بلا قياس ولا دليل ,وليس لذلك حد في نفس القضايا بل ذلك بحسب احوال بنى آدم لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس إنه لا يمكن غيره ان يعلمه بلا قياس بل هذا نفى كاذب.
مجموع الفتاوى (9
237) والرد على المنطقيين (364)
التاسع عشر:كلامهم لايتعدى الذهن ولا حقيقة له في الخارج
قال:وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم فى أنواع علومهم لم يجد عندهم علما بمعلومات موجودة فى الخارج إلا القسم الذي يسمونه الطبيعي وما يتبعه من الرياضي ,وأما الرياضي المجرد فى الذهن فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها فى الخارج والذى سموه علم ما بعد الطبيعة؛إذا تدبر لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج وإنما تصوروا أمورا مقدرة فى أذهانهم لا حقيقة لها فى الخارج ,ولهذا منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمهم هو الوجود المطلق الكلى والمشروط بسلب جميع الأمور الوجودية.
والمقصود أنهم كثيرا ما يدعون فى المطالب البرهانية والأمور العقلية ما يكونون قدروه فى أذهانهم ويقولون نحن نتكلم فى الأمور الكلية والعقليات المحضة ,وإذا ذكر لهم شىء قالوا نتكلم فيما هو أعلم من ذلك ,وفى الحقيقة من حيث هي هي ونحو هذه العبارات فيطلبون بتحقيق ما ذكروه فى الخارج ,ويقال بينوا هذا أي شيء هو فهنالك يظهر جهلهم وأن ما يقولونه هو أمر مقدر فى الأذهان لا حقيقة له فى الأعيان مثل أن يقال لهم اذكروا مثال ذلك ,والمثال أمر جزئى فإذا عجزوا عن التمثيل قالوا نحن نتكلم فى الأمور الكلية؛فاعلم أنهم يتكلمون بلا علم وفيما لا يعلمون أن له معلوما فى الخارج بل ليس له معلوم فى الخارج وفيما يمتنع أن يكون له معلوم فى الخارج وإلا فالعلم بالأمور الموجودة إذا كان كليا كانت معلوماته ثابتة فى الخارج.
مجموع الفتاوى (9
229)
وقال أيضا:
إن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة ,وإنما تكون كلية في الأذهان لا فى الأعيان وأما الموجودات فى الخارج فهي أمور معينة كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره؛فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين ,وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شىء من حقائق الموجودات وإنما يفيد أمورا كلية مطلقة مقدرة فى الأذهان لا محققة فى الأعيان.
فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التى يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه لا يدل شىء منها على عينه ,وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه؛فإذا قال هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ,وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله فى القلوب وهم معترفون بهذا لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لا بد من ذلك والكلى لا يدل على معين ,وهذا بخلاف ما يذكره الله فى كتابه من الآيات كقوله تعالى {إن فى خلق لسموات والأرض} الآية إلى غير ذلك يدل على المعين كالشمس التى هي آية النهار والدليل أعم من القياس؛فإن الدليل قد يكون على معين كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره فإن كل ما سواه مفتقر اليه نفسه فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه.
مجموع الفتاوى (9
234)
([1]) ولهذا كانت العلوم عندهم ثلاثة: إما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الطبيعي وموضوعه الجسم , وإما علم مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو الرياضي كالكلام في المقدورات المعدودة والمقدار والعدد , وإما ما يتجرد عن المادة فيهما وهو الإلهى وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه الى واجب وممكن وجوهر وعرض. مجموع الفتاوى (9
123)
¥