وأما الشرطي المنفصل وهو الذى يسميه الأصوليون السبر والتقسيم ,وقد يسميه أيضا الجدليون التقسيم والترديد؛فمضمونه الاستدلال بثبوت أحد النقيضين على انتفاء الآخر وبانتفائه على ثبوته ,و أقسامه أربعة ولهذا كان فى مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذا الآخر ,وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذا الآخر ,ومانعة الجمع الاستدلال يثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر والأمران متنافيان ومانعة الخلو فيها تناقض لزوم والنقيضان لا يرتفعان فمنعت الخلو منهما ,ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر ليس هو وجود الشيء وعدمه ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازما للآخر وإن كانا لا يرتفعان لأن ارتفاعهما يقتضى ارتفاع وجود شيء وعدمه معا.
وبالجملة ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه وله مناف مضاد لوجوده فيستدل عليه بثبوت ملزومه وعلى انتفائه بانتفاء لازمه ,ويستدل على انتفائه بوجود منافيه ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده إذا انحصر الأمر فيهما؛فلم يمكن عدمهما جميعا كما لم يمكن وجودها جميعا ,وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولازمها ,وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته فى أنواع صور الأدلة لا يختص شيء من ذلك بالصورة التى ذكروها فى القياس فضلا عما سموه البرهان؛ فإن البرهان شرطوا له مادة معينة وهى القضايا التى ذكروها وأخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات وما سموه مشهورات وحكم الفطرة بهما لا سيما بما سموه وهميات أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان.
مجموع الفتاوى (9
193)
وقال: فكذلك الدليل والبرهان هوالمرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود وكلما كان مستلزما لغيره؛فإنه يمكن أن يستدل به عليه ,ولهذا قيل الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو ظن.
فالمقصود أن كل ما كان مستلزم لغيره بحيث يكون ملزوما له؛ فإنه يكون دليلا عليه وبرهانا له سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديا والآخر عدميا فأبدا الدليل ملزوم للمدلول عليه والمدلول لازم للدليل ...
والمقصود هنا أن المطلوب هو العلم والطريق إليه هو الدليل؛فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه سواء نظمه بقياسهم أم لا ,ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم ولا يقال أن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها؛فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم؛فإن حقيقة قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته
وأما كون المعين مستلزما لمدلوله فهذا ليس فى قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات ,وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التى اشتمل عليها الدليل وليس فى قياسهم بيان صحة شىء من المقدمات ولا فسادها وإنما يتكلمون فى هذا إذا تكلموا فى مواد القياس وهو الكلام فى المقدمات من جهة ما يصدق بها وكلامهم فى هذا فيه خطأ كثير كما نبه عليه فى موضع آخر.
والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة فى كل برهان ودليل فى العالم هو اللزوم فمن عرف أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ بل من عرف أن كذا لابد له من كذا أو أنه إذا كان كذا كان كذا وأمثال هذا؛فقد علم اللزوم كما يعرف أن كل ما فى الوجود آية لله فإنه مفتقر إليه محتاج إليه لابد له من محدث كما قال تعالى {أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون} قال جبير بن مطعم: لما سمعت هذه الاية أحسست بفؤادى قد انصدع.
فإن هذا تقسيم حاصر يقول أخلقوا من غير خالق خلقهم فهذا ممتنع فى بدائه العقول أم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا فعلم أن لهم خالقا خلقهم.
وهو سبحانه ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليبن أن هذه القضية التى استدل بها فطرية بديهية مستقرة فى النفوس لا يمكن لأحد إنكارها فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه ولا يمكنه أن يقول هذا أحدث نفسه ,وكثير من النظار يسلك طريقا فى الاستدلال على المطلوب ويقول لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق ولا يكون الأمر كما قاله فى النفى وإن كان مصيبا فى صحة ذلك الطريق؛فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته؛فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس فى معرفتها كثيرة.
مجموع الفتاوى (9
213) والرد على المنطقيين (252)
الاستقراء من باب اللزوم وليس من باب الاستدلال بجزئي على كلي
قال: وأما الاستقراء فإنما يكون يقينيا إذا كان استقراء تاما وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد وهذا ليس استدلالا يجزئى على كلى ولا بخاص على عام بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر؛فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلى العام يوجب أن يكون لازما لذلك الكلى العام.
فقولهم إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق وكيف ذلك والدليل لا بد أن يكون ملزوما للمدلول؛فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه ولم يكن المدلول لازما له لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل نعلم ثبوت المدلول معه إذا علمنا أنه تارة يكون معه وتارة لا يكون معه فإنا إذا علمنا ذلك ثم قلنا إنه معه دائما كنا قد جمعنا بين النقيضين ,وهذا اللزوم الذي نذكره هنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم ,وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر.
الرد على المنطقيين (202)
والحمد لله أولا وآخرا
¥