تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[عبد الحق آل أحمد]ــــــــ[28 - 08 - 08, 09:38 م]ـ

عائشة ...

كنت بعاصمة الجزائر سنة 1344هـ، وصمت بها رمضان ذلك العام، وكنا رفقة نجتمع كل ليلة من ليالي رمضان، وكان في رفقتنا محام مسلم جزائري اسمه الإسلامي: ((عبد القادر ... )) واسمه الفرنسي: ((أَلبرت ... )) وهذا الاسم الأخير هو ما تدعوه به أمه الفرنسية، وأصدقاؤه الفرنسيون و المتفرنسون، وكان هو الآخر متفرنسا، ومتفرنسا في كل شيء؛ في عقليته و أدبه، وفي أخلاقه و عاداته، وحتى في اللغة العامية التي يتكلم بها، فهو لا يقيم الصلاة، ولا يصوم رمضان، ولا يحرم ما حرم الله ولا يؤمن بأن القرآن تنزيل من الله، بل كان يحسبه من كلام الرسول صلى الله عليه و سلم وهكذا- وهو عند نفسه مسلم – كان من الذين لا يدينون دين الحق، وذلك لأنه نشأ نشأة فرنسية محضة، ما كان يعرف فيهما ما الإسلام، ولا يعرف عن المسلمين شيئا، فقد ربته أم فرنسية، في وسط فرنسي ...

ومع ذلك فقد وجدنا فيه خصلة حميدة هي التي كانت تربطنا به و تربطه بنا ارتباطا متينا، وهي وطنيته الحقة، وغيرته الصادقة على الجزائر و إخلاصه لأبنائها، وجهاده في سبيلها جهادا شريفا، فكنا نتعاون على البر بالجزائر، وعلى خدمة القضية الجزائرية: هو يستعين بي على فهم نفسية الجزائر المسلمة، و أنا استعين به على ما صدر في القضية من قرارات و قوانين.

وكان متزوجا بزوج فرنسية لا تعرف هي أيضا العربية الدارجة إلاَّ قليلا، وكانت تحضر معه مجالسنا تلك، فكنا (أنا و إياه) نتكلم في الصلاة و الصوم و القرآن، وما إلى ذلك من مسائل الدين، وكان رجلاً لا يذعن إلا للحجة و الدليل، فكان لذلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

فتحاورنا ما شاء الله محاورة مخلصة لا نريد بها إلاَّ بيان الحق، ثم أذعن و صام وهجر الخمرة و آمن بالله و اليوم الآخر و أيقن بأن القرآن من عند الله لا ريب فيه، ثم كان من الذين آمنوا و عملوا الصالحات، وما وجدت أية صعوبة في إقناعه، مع أني لم أكن أطمع فيه، لما أعرفه في هؤلاء من المكابرة و العناد.

وليس مرادي أن أقص حكاية مسلم كان ضالاً فاهتدى من ضلاله، و إنما مرادي شيء آخر غير هذا فقد انقضى رمضان ذلك و تفرقنا: فسافرت أنا في النصف الأخير من شوال 1344هـ إلى مدينة الأغواط بجنوب الجزائر مندوبا من بعض سراتها، فأنشأت بها (مدرسة الشبيبة القرآنية) بإعانة فضلائها و احتملت من العناء في هذا المشروع ما لا طاقة لي به [1] ([1]: لأن السلطة لا تريد هذا النوع من المدارس) لولا حب هذا الوطن البائس وحدث لي ما اضطرني إلى السفر إلى بسكرة (مسقط رأسي) فخلفني - لحسن الحظ – على المدرسة أخ مصلح كريم دعوته لهذه المهمة، وهو الأستاذ الميلي.

وسافر صديقي المحامي الأستاذ عبد القادر ... إلى فرنسا هو و قرينته و مضت فترة لا اكتب إليه فيها، ولا يكتب إلي فلبثنا كذلك، حتى جاءتني منه ذات يوم رسالة يخبرني فيها بما عمله هنالك للجزائر، وبما ينوي أن يعمله لها، ويعاتبني على ما كان من قطيعة و جفاء و يخبرني بإسلام قرينته، ويشكو لي أن كنت سبباً في هدايتها.

وكتبت إليَّ هي بخطها ضافية تقول لي فيها: إنها مدينة لي بهدايتها إلأى الإسلام لأنها و إن لم تعلن إسلامها ولم تذعه إلا في هذا اليوم فإنها كانت اعتنقت الإسلام منذ رمضان 1344، وكانت قالت يومئذ فيما بينها و بين نفسها: ((أشهد أن لا إله إلا الله و اشهد أن محمداً رسول الله)) منذ سمعتني أتحدث إلى زوجها عن حكمة الصلاة و الصيام وتحريم الخمر، وعن القرآن الكريم، وكونه كتاب الإنسانية الذي لا يصلحها إلا هو، وكونه تنزيلا من الله، ما فيه شك وقال: (( ... ومما زادني إيماناً ما رايته في زوجي، وهو يحاورك في القرآن، فقد رأيت كل ما أعرفه فيه من قوة حجة، و أحكام منطق، كل ذلك رأيته يضول أمام ما كنت تبديه من إيمان تندفع فيه اندفاعا: فيه لهجة صادقة، وفيه فصاحة و بيان، وأن أنس لا أنسى وجومه وقد زعم أن الوطنية الصادقة تغني عن الدين فقلت له ((إذا كنت لا تدين بدين أبناء وطنك، ولا تلبس لباسهم، ولا تتكلم بلغتهم و عوائدك غير عوائدهم فبماذا تكون وطنيا؟ ثم إذا كنت تعيش في غير مجتمعهم بعيداً عنهم وتتأدب بأدب غير أدبهم و تتخلق بأخلاق غير أخلاقهم فيماذا تميز مصلحتهم من مضرتهم؟))

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير