عن إدراك ذلك لنفسه وبنفسه؟).
قلت: وكل هذه المباحث الثلاثة وتفصيلاتها السابقة، إما: قد كفانا الشرع مؤنتها؛ فوضحها وبينها، أو: لم يُكلفنا تطلب بعضها، والخوض فيها؛ لسببين: الأول: أنه غير مجدٍ ولا موصلٍ لنتيجة - كما سبق -، بل ستظل العقول تتخالف وتتضارب فيه دائمًا وأبدًا؛ لأنها حشرت نفسها في أمر قد حُجب عنها، وفي خاتمة أمرها ستكون كما قال القائل: يُحللون بزعم منهمو عُقَدًا .. وبالذي وضعوه زادت العُقَدُ. السبب الثاني: أن الأولى والأجدى والأوجب أن تخوض العقول في عالم الشهادة؛ تعتبر به، وتكتشفه، وتُبدع من خلاله ماينفعها في دينها ودنياها.
جنايات الفلسفة:
يقول الدكتور عبدالقادر الغامدي: (قد عُلم وتبين أن الأوروبيين لم يتقدموا في الصناعة والعلوم التقنية ونحوها، المعاصرة إلا لما تخلوا عن فكر اليونانيين، وخاصة منطق أرسطو، وما قام المنطق الحديث عند الأوروبيين إلا على أنقاض ذلك، يقول بوشنسكي: " الفلسفة الأوروبية الحديثة أهملت المنطق الصوري إهمالاً كبيراً، حتى لقد سقط في زاوية النسيان المهين ". وقد هاجم المنطق الأرسطي كبارُ الفلاسفة الأوروبيين المحدثين والمعاصرين الذين قدموا شيئاً في مجال العلوم الدنيوية هجوماً عنيفاً.
فقد ثار فرانسيس بيكون –أبو الحضارة الأوروبية- ضد تراثهم، وكان يرى ومن وافقه أن فكر اليونانيين هو سبب جمود العلم، لذلك كان مشروعه العلمي الذي سماه "الإحياء العظيم " في جانب كبير منه " الأورجانون الجديد " يعارض فيه منهج اليونانيين". وقال واصفاً جميع اليونانيين أنهم: "يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب (المثمر) بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أية نتائج". ويقول في وصف دقيق ومشهور لفلسفة أفلاطون: "حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين". ويرى أن هذا الوصف ينطبق على جميع الفلاسفة اليونانيين المتأخرين). (عبدالرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي .. ، ص 86 - 88).
الإسلام أطلق العقول في النافع .. وفطمها عن غير النافع، لكن الفلاسفة وأتباعهم عكسوا الأمر:
يقول الدكتور محمد الصوياني عن الإسلام: (في الشأن العقدي: أعيد التوحيد نقياً، وتم نفي الصفات البشرية عن الله؛ كالزوجة والابن والبنت والولادة.
في الجانب العبادي: جعل العبادة كلها محرمة ما لم يكن مصدرها الكتاب والسنة، وبذلك أنشئت سياج بالغة القوة للإبقاء على نقاء العبادات، والاحتفاظ بالنسخ الأصلية لكل عبادة؛ كنتيجة للاحتفاظ بالنسخة الأصلية للقرآن والسنة.
في الجانب الدنيوي: أُطلق يد الإنسان في هذا الكون ليبتكر ويبدع ويعمر ويصنع ويخترع ويكتشف، تحت القاعدة التي غيرت وجه الكون، وأطلقت أوروبا من ظلمتها، تلك القاعدة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وبالآيات التي تحث على العلم التجريبي عند الجاهلية والمسيحية). (العقل العربي، ص 493).
ويقول الدكتور سليمان دنيا – رحمه الله – " وهو خبير بالفلسفة ": (ومما هو جدير بالاعتبار أن الدين قد قصر أمر الاعتقاد على: معرفة مصير الإنسان، وهو البعث والحياة والآخرة. والطريق التي حملت هذه المعرفة إليه، وهو الأنبياء والكتب والملائكة. والمصدر الذي بعث إليه بهذه المعرفة، وهو الله سبحانه وتعالى، وقصر أمر الشريعة على ما به صيانة الدماء والأرواح، والعقول والأعراض، والأموال"، (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).
أما الكون -فيما عدا ذلك- بمجالاته الفسيحة: من فلك، وطب، ورياضيات، وعلوم أحياء، وعلم طبقات الأرض، وعلم الذرة، وعلم الفضاء، والإشعاعات الكونية، وغيرها، وغيرها، فهي كلها حق للإنسان يمارسها بكل ما يملك من حرية.
وإذا كان للدين شيء يقوله بصددها فهو الحث على طلبها، والتشجيع على معرفتها؛ فقد رفع الإسلام شأن العالم إلى مدى تنحط دونه جميع الشئون؛ (قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون). (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط). (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
نعم لم يكن شأن الإسلام في هذه الناحية شأن الكنيسة التي ادعت علم كل شيء، وحق احتكار العلم بكل شيء.
¥