إن كثيرا من شبابنا الذين درسوا في الغرب قد فتن بالفلسفة، كما فتن بها كثير من الذين تتلمذوا على كتب الغرب المترجمة إلى العربية ووصل الأمر إلى حد افتتان جامعاتنا في أقسامها النظرية بالفلسفة فدرسها الأساتذة في إعجاب وأيدوها.
واختلف الوضع الحاضر كثيرا عن نظرة أسلافنا إلى الفلسفة.
ولقد عارض الفلسفة جميع المحدثين وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل كما عارضها كثير من كبار المفكرين وعلى رأسهم الإمام ابن تيمية. ولقد كان للإمام ابن تيمية فضل كبير وأثر بالغ في بيان فساد علم المنطق الذي كان سائدا في الأوساط الإسلامية منذ أن كان " الكندي " و " الفارابي " و " ابن سينا "، ولقد كتب الإمام ابن تيمية فيه كتبا من أنفس ما يكون وعلى الخصوص كتاب " الرد على المنطقيين ".
ولم يقتصر الإمام ابن تيمية على نقد المنطق وإنما عمل جهده على تسفيه كل فكرة منحرفة من أفكارهم، ثم إنه من الذين بينوا في وضوح (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول). وكذلك فعل الإمام ابن حزم فقد نقد أيضا المنطق وتصدى لانحرافات الفلاسفة، أما الكتاب الذي كان له أثر بالغ في انهيار الفكر الفلسفي فهو كتاب (تهافت الفلاسفة) وكلمة (تهافت) إنما تعني السقوط والانهيار والعنوان يعني إذن سقوط الفلاسفة وانهيارهم.
وعلى سنة هؤلاء وعلى طريقهم سرت في هذا المقال مؤمنا بفكرة أسلافنا مقتنعا بها بعد دراسة فاحصة متأنية: فقد درست الفلسفة في أوربا ثم درستها فترة طويلة من الزمن وخرجت من كل ذلك مما خرج به أسلافنا- رضوان الله عليهم.
وإذا كان أسلافنا قد كتبوا عن الانحراف الفلسفي بأسلوبهم وعلى طريقتهم فلعله من الخير أن يتحدث الذين يسيرون على نهجهم إلى شبابنا بأسلوب ميسر بحيث يقنعهم بمنطق العصر الحاضر حتى لا يشق عليهم فهمه.
ومن أجل أن تستمر مسيرة أسلافنا في معارضة كل ما لا يلائم الجو الإسلامي كتبت هذا البحث وأرجو الله تعالى أن يهدي به وأن يهدي إليه وأن يكون عملا نافعا.
حينما نتحدث هنا عن الفلسفة فإنما نعني: البحث العقلي البحث في ما وراء الطبيعة وفي الأخلاق.
ونعني بما وراء الطبيعة: الإلهيات، أو ما يسمى في عرف المتكلمين: العقائد.
ونعني بالأخلاق: معناها الشامل الذي يتضمن التشريع الذي يحرم المنكر ويردع الذين يفعلونه، وقد يخالفنا هذا الباحث أو ذاك في هذا الذي نعنيه بالفلسفة، ولكننا أحببنا أن نتفق والقارئ على اصطلاح محدود، وفي إطار هذا الاصطلاح يسير بنا البحث.
يقول الأستاذ (أندريه كرسن) في كتابه: (المشكلة الأخلاقية والفلسفية) ما يلي: - " إن الفلسفة بمعناها الخاص قد دارت- ولا تزال تدور- حول طائفتين أساسيتين من المسائل:
(1) المسائل النظرية:
ما الكائن؟
ما أصله؟
ما المصير الذي ينتظره هو وما تفرع منه؟
أفي طوق عقل الإنسان أن يضع حلولا لهذه المسائل، أم أن ذلك في حكم المستحيل؟
كل هاتيك المسائل تعتبر مسائل ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة).
(2) المسائل العلمية:
كيف يجب أن يكون مسلكنا في الحياة؟
كيف نربي الناشئين تربية حسنة؟
ماذا يجب لقيادة الدولة حتى تسير على النهج المستقيم؟
كل هاتيك المسائل عليها تتوقف الأخلاق أو تستمد هي من الأخلاق.
وهذا الذي ذكره الأستاذ أندريه كرسن هو رأينا الذي نسير على ضوئه في موضوعنا هذا.
إن كل من يتصفح تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام يجد مجموعة من كبار المفكرين بحثوا، في تعمق، الموضوعات الفلسفية هذه، وانتجوا فيها انتاجا يتفاوت كما وكيفا بحسب شخصياتهم.
وبدأت هذه المجموعة بفيلسوف العرب: " أبو يعقوب الكندي ثم كان الفارابي وابن سينا وغيرهم.
ونتساءل الآن: لماذا كان المحدثون وكثير غيرهم خصوما للفلاسفة؟
وما هي حكمتهم في ذلك؟
إن موقفهم من الوضوح بمكان، وذلك أن موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين. إن الدين: إلهيات وأخلاق تستند إلى الوحي، والوحي معصوم، والفلسفة إلهيات وأخلاق تستند إلى العقل، والعقل يخطئ ويصيب، وهو حينما يخطئ لا يعلم يقينا أنه أخطأ، وحينما يصيب لا يعلم يقينا أنه أصاب.
ويقولون، أو لسان حالهم يقول: " لقد ضمن الله لنا العصمة في الوحي، ولم يضمن لنا العصمة في الآراء العقلية ".
¥