ومرت العصور، وتوالت القرون، وجاء (ديكارت)، وبدأ (ديكارت) يتفلسف على استحياء وعلى حذر بالغ، فما كان جو زعماء المسيحية في الغرب إذ ذاك يوحي بالاطمئنان أو السكينة، لقد كان جوا رهيبا يأخذ على الظنة وينكل على الشبهة، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة.
وأخذ (ديكارت) يتحسس طريقه في حيطة بالغة: مداريا، مجاملا، مادحا، متواضعا. .
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم.
وأنه على أساس من هذا المنهج سيقود الإنسانية إلى الحق. .
ورأى أن هذا المنهج صالح للكشف عن الحق في الكون وفي ما وراء الكون، في الطبيعة وفي ما وراء الطبيعة.
ولكن التجربة أظهرت خطأه في أثناء حياته.
وأن الخلاف استمر حول آرائه في الإلهيات، وآراء معاصريه، وآراء من قبله، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه، وأخفق منهج ديكارت كما أخفق من قبل منهج أرسطو. .
وبقيت الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن الفلسفة لا مقياس لها. هذه هي السمة الأولى. .
السمة الثانية: ما دامت الفلسفة لا مقياس لها فهي إذن ظنية، إنها ظنية وإن عجنت بمنطق أرسطو الذي أخفق، وهي ظنية وإن خبزت بمنهج ديكارت الذي لم ينفع في قليل ولا في كثير، إنها ظنية لأنه لا يتأتى أن تفرق فيها- ولا مقياس- بين الحق والضلال، وستستمر هكذا إلى الأبد.
السمة الثالثة: مادام لا سبيل إلى اليقين في موضوعات الفلسفة فإن من البدهي أن: اختلاف الآراء فيها دائم".
وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفي عبر القرون، إن الاختلاف والجدل دائم مستمر منذ أن نشأ الفكر الفلسفي، إنهم يختلفون حتى في المدرسة الواحدة.
وانظر مثلا إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته في احترام بالغ، وفي تبجيل يشبه التقديس، فإذا جئت إلى آرائهم في الإلهيات، أو في الأخلاق، فستجد الاختلاف والافتراق. . الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم، والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض. .
بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف مع نفسه بحسب تطور حياته، أو اختلاف بيئته أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافته.
وكل هذا واضح عبر العصور.
ومن غرائب الأمور أن الفلاسفة يعلمون علما يقينا، ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعا: إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق، إنه يخطئهم جميعا ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائهم، واكتفى بما أخبروه، أو بما أنشأه أحدهم من قبل.
ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائما إلى نقد ونقض فإنه لا يأبه بهذه المعرفة ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه، فيأتي من بعده ويهدمه ويقيم مذهبا مآله السقوط وهكذا دواليك:
السمة الرابعة: وما دام الاختلاف مستمرا فإن المسائل التي هي موضوع الفلسفة تستمر هي هي، "إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور ".
ما هي مسائل الفلسفة؟ إنها: معرفة الله سبحانه وصفاته، وصلته بالعالم خلقا وتصريفا، وصلته بالإنسان قربا وتوجيها. . والبعث وكيفيته. . . والخلق الكريم الذي يمثل الفضيلة والكمال. . . والخلق السيئ الذي يمثل الشر والفساد. . . والنبوة والصلة بالله عن طريق الوحي: إثباتا وإنكارا، ثم: هل المعرفة ممكنة؟ وفي كل هذه الموضوعات الكبرى وغيرها مما يتصل بها اختلف الفلاسفة وما زالوا. واستمرت هذه المسائل على مدى سبعة وعشرين قرنا تقريبا مثار بحث وجدل إلى الآن. .
لم يصل الفلاسفة في واحدة منها إلى اليقين، ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق.
السمة الخامسة: إن الاختلاف في مسائل الفلسفة ليس اختلافا في الإيجاب فحسب، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة ما عدة حلول كلها إيجابية.
وليس اختلافا في السلب فحسب، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سليمة
إن الخلاف عام في الإيجاب وفي السلب وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق في كل مسألة، وإنه ليصل بك أحيانا إلى طريق مسدود.
وإن الفكر الفلسفي ليصل بك أحيانا إلى إنكار السماء والأرض، وما بين السماء والأرض، ويقول لك: ليس في الوجود - يقينا- غيرك أنت وحدك.
وإن السمة الأخيرة هي سمة تؤدي إليها، - لا مناص- السمات السابقة.
وإذا كانت السمات السابقة يسلم كل منها إلى الآخر، فإنها جميعا تتكاتف لتؤدي إلى هذه السمة الأخيرة.
¥