تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

السمة الأخيرة: هذه السمة الأخيرة هي أن: " الفلسفة لا رأي لها ".

وقد تكون هذه السمة مفاجأة لبعض الناس، كيف يتأتى أن تكون هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا صياحا، منذ نشأت، ولم تكف- منذ أن نشأت للآن - عن الصياح: لا رأي لها؟

والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضة:

أما أولا: فلأن " الفلسفة لا رأي لها". نتيجة واضحة لكل ما قدمنا.

وأما الثانية: فخذ أي مسألة من مسائل الفلسفة فستجد فيها الآراء التي تنكر، والآراء التي تثبت، إنك ترى الرفض والقبول في كل أمر.

والرفض فلسفة، والقبول فلسفة.

وقد يكون الرأي توقفا على الرفض والقبول وهو فلسفة، وقد يكون شكا في الرفض، وشكا في القبول في آن واحد، وهو أيضا فلسفة.

والشك إما أن يكون شكا في قيمة الآراء التي تعرض: نفيا أو إثباتا.

وإما أن يكون شكا في قيمة وسيلة المعرفة نفسها وهي الحواس والعقل.

وكل ذلك فلسفة في كل مسألة.

وإذا تساءلت- وأنت على علم بالجو الفلسفي: جو المتاهات والوهم- ما الرأي الفلسفي في هذه المسألة أو تلك فستجد كل ما قدمناه ماثلا أمامك يثبت لك بما لا مرية فيه أنه: (لا رأي للفلسفة).

وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمرا في منهج الفكر الفلسفي فيه عظة وفيه عبرة: إن محاورة " فيدون " لأفلاطون لها أهميتها لأكثر من وجه. منها أنها:

1 - محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفس.

2 - وهي محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين، وإنما تتحد وتتفق ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم وهي أن: (النفس خالدة).

3 - إن الذين يدور بينهم الحوار فلاسفة من الذين له وزنهم واعتبارهم، وأحدهم يسمونه " أبا الفلسفة" ويسمونه " أبا الفلاسفة".

4 - المتحاورون ليسوا من مدرسة واحدة وإنما هم من مدرستين مختلفتين هما: مدرسة سقراط، ومدرسة فيثاغورس، وهما وإن كانتا متقاربتين فإنه ما من شك في أن جو سقراط العقلي يختلف عن جو فيثاغورس الروحي.

ولهذا الاختلاف فإن اتفاقهما على غاية واحدة: (إثبات خلود الروح) ومحاولتهما الاستدلال عليها له أهميته الخاصة.

5 - بيد أن الأمر الأساسي الهام الذي من أجله نتحدث في هذا الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن " الوحي" فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة الآمنة المتينة، وأن العقل في مجال الإلهيات، إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا وازنته بالوحي: (إن الوحي سفينة والعقل لوح خشب).

لقد كان الحوار يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين هما: سيميا " و" قابس " وهما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية.

وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم في البرهنة على خلود النفس ويقيمون أدلة وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع ثم: " ويسكت سقراط، ويسكت الجميع، وبعد هنيهة يقول سيميا:

إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة، ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل، فيجب:

إما الاستيثاق من الحق.

وإما - إن امتنع ذلك- استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة.

كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب، ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن، أعني إلى وحي إلهي"

وبعد ذلك يعودون إلى البحث من جديد حتى:

يقتنع قابس، ويعلن سيمياس أنه مقتنع أيضا، إلا أن شعوره المزدوج بعظم المسألة وبالضعف البشري يضطره إلى بعض التحفظ بإزاء هذه الأدلة على وجاهتها.

فيسلم له سقراط بحقه في هذا التحفظ، ويزيد قائلا:

بل إن المقدمات أنفسها مفتقرة إلى بحث أوكد.

إن هناك بحر الإلهيات، وهناك البحر المائي.

وكما أن للبحر المائي آلة عبور هي السفينة، فإن لبحر الإلهيات آلة عبور هي "الوحي".

فإذا استعمل الإنسان العقل في عبور بحر الإلهيات، فإنه يكون كإنسان يستعمل لوحا من خشب في عبور البحر المائي.

ولكن المضطر- حيث لا وحي- يستمسك بلوح الخشب- كما يقول سيمياس - " ما دام لا سبيل إلى مركب أمتن وآمن، أعني إلى وحي إلهي".

اليهود والفلسفة

ولعل القارئ الكريم يسمح بأن أتحدث عن الجو الذي عشته في بواكير حياتي الفلسفية، لقد كان ذلك لأول عهدي بجامعة باريس حينما ذهبت إلى فرنسا للدراسة:

وأحب أن أصف الجو الذي عشته- بتوفيق الله - أثناءه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير