(فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها، وإلا توقف في قبولها، فكثيرا ما يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يخرّجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعه، مع أنّ ذلك الإمام لو رأى أنّها تفضي إلى ذلك لما التزمها، وأيضا فلازم المذهب ليس بمذهب، وإن كان لازم النص حقا لأنّ الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما من عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمه، ولو علم أنّ هذا لازمه لما قاله، فلا يجوز أن يقال هذا مذهبه ويُقَوَّل ما لم يقله، وكل من له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الأئمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدِّين تيّقن أنّهم لو شاهدوا أمر هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها) إعلام الموقعين (3/ 286).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
(وأما ما حكاه القاضي عن ثمامة فهو من لوازم قوله كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا: تحدث إرادة لا في محل بلا إرادة ألزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة، وهو ينفي عنها الفاعل الإرادي لا ينفي سببا اقتضى حدوثها، وهم مع هذا معترفون بأنه لابد للحوادث من فاعل مختار، ولكن لازم المذهب ليس بمذهب وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح لفسادها بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها) درء التعارض (4/ 153)
وقال رحمه الله:
(ويقول المثبت نفيُ مباينته للعالم وعلوه على خلقه باطل، بل هذه الأمور مستلزمة لتكذيب الرسول فيما أثبته لربه وأخبر به عنه، وهو كفر أيضا لكن ليس كل من تكلم بالكفر يكفر حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره، فإذا قامت عليه الحجة كفر حينئذ بل نفيُ هذه الأمور مستلزم للتكفير للرسول فيما أثبته لربه وأخبر به عنه بل نفى للصانع وتعطيل له في الحقيقة، وإذا كان نفى هذه الأشياء مستلزما للكفر بهذا الاعتبار وقد نفاها طوائف كثيرة من أهل الإيمان فلازم المذهب ليس بمذهب (إلا أن يستلزمه) صاحب المذهب فخلق كثير من الناس ينفون ألفاظا أو يثبتونها بل ينفون معاني أو يثبتونها ويكون ذلك مستلزما لأمور هي كفر، وهم لا يعلمون بالملازمة، بل يتناقضون، وما أكثر تناقض الناس لا سيما في هذا الباب وليس التناقض كفرا) مجموع الفتاوى (5/ 306)
قلت: في المطبوع إلا أن يستلزمه، ولعلّ الصواب: إلا أن يلتزمه وانظر النص الآتي له رحمه الله.
بل سئل رحمه الله تعالى وقدّس روحه:
(هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فأجاب: وأما قول السائل هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب، فالصواب أن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فانه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا عليه) مجموع الفتاوى (20/ 217)
وقال الشاطبي رحمه الله:
(ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر عليه، أنكره غاية الإنكار) الاعتصام (2/ 549).
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:
(والتحقيق الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهبا، لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نلزم القائل بما لم يلتزمه، ونقوله ما لم يقله، ولكننا نستدل بفساد اللازم على فساد الملزوم، فإن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها وضعفها وعلى فسادها، فإن الحق لازمه حق، والباطل يكون له لوازم تناسبه) توضيح الكافية الشافية (ص113).
* وأمّا قوله سبحانه وتعالى أخي أبا عبد الله الفاضل: {كذبت قوم لوط المرسلين} فهذا يخرّج على وجهين:
الأوّل: أنه ليس من حكاية لازم قولهم، وإنما هو صريح قولهم، فتكذيبهم لدعوة لوط، إنما هو تكذيب لأصل دعوته التي شاركه فيها رسل الله عليهم السلام، لا تكذيب لذاته وشخصه، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وعليه فهو تكذيب لدعوة كلّ رسول بصريح العبارة، ولو لم يجابِهوا بها كلّ رسول بعينه، لأن المقصودَ ها هنا المعاني والمضامين، لا الذوات والأجساد، فلو قال شخص مقولة ما، فقال له شخص آخر هذه مقولة باطلة كاذبة، ثم قال عين المقولة شخص آخر، لسحبنا الحكم على الثاني، وقلنا إن فلانا يقول: كلامك هذا باطل وكذب، وهذا ليس حكاية للازم القول، إنما هو من صريح القول ومنطوقه، فتأمّل،،،،،،
الثاني: لو تنزّلنا جدلا أن هذا حكاية للازم قول قوم لوط، لأنهم كذبوا لوطا عليه السلام، ولم يكذّبوا جميع المرسلين، قلنا: إن الذي حكى عنهم لازم قولهم هو ربّ العالمين، إله الأولين والآخرين الذي يعلم السرّ وأخفى، فتعيّن المصير إليه، فصار لازم قولهم في حكم المنطوق، والوجه الأوّل هو الأظهر، والله تعالى أعلم