وكلامه, ونزوله إلى السماء الدنيا, وضحكه ... وما أشبه ذلك, فهذا يُنسب إلى الله تعالى فعلا مباشرة. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. وقال شارح " العقيدة الطحاوية " ابن أبي العز – رحمه الله – عند كلامه على أصل القدر: فإن قيل: كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوِّنه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا, وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه, ومراد لغيره. فالمراد لنفسه, مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير, فهو مراد إرادةَ الغايات والمقاصد. والمراد لغيره, قد لا يكون مقصودا للمريد, ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته, وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده, فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته, مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده. فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته, ولا يتنافيان, لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه, إذا عَلِمَ المتناول له أن فيه شفاءه, وقطع العضو المتآكل, إذا عَلِمَ أن في قطعه بقاء جسده, وكقطع المسافة الشاقة, إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب, وإن خفيت عنه عاقبته, فكيف بمن لا يخفى عليه خافية. فهو سبحانه يكره الشيء, ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره, وكونه سببا إلى أمر هو أحب إليه من فَوْتِه. ثم مثَّل – رحمه الله تعالى – كذلك على ما قال بخلق الله لإبليس, فراجعه إن شئت, فإنه كلام نفيس. وقبل هذا الكلام نقل الشارح – رحمه الله تعالى – ما نصه: وروى عمر – وفي النسخة التي حقق أحاديثها الشيخ الألباني عمرو – بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة, وصحبنا فيها قدري ومجوسي, فقال القدري للمجوسي: أسلم, قال المجوسي: حتى يريد الله, فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد, قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان, فكان ما أراد الشيطان, هذا شيطان قوي, وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما. ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد (قلت: هذا شيخ المعتزلة) , فقال: يا هؤلاء إن ناقتي سُرِقَتْ, فادعوا الله أن يردَّها عليّ, فقال عمر بن عبيد: اللهم إنك لم تُرِدْ أن تُسْرَقَ ناقتُه فَسُرِقت, فارددها عليه, فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك. قال: ولِمَ؟ قال: أخاف كما أراد أن لا تُسْرَقَ فسُرِقَت أن يريد ردَّها فلا تُردُّ. انتهى النقل عن ابن أبي العز – رحمه الله تعالى – وهذا الشرح للطحاوية – أعني شرح ابن أبي العز – من أعز وأنفس شروح الطحاوية – على بعض الإطلاقات التي انتُقِدَت على صاحب العقيدة (أعني الطحاوي) وتابعه عليها الشارح – , وعلى أي حال فقد أبى الله العصمة إلا لكتابه وهذا الشرح شرح مبارك بالجملة ينبغي الاعتناء به ولكن في مرحلة متقدمة وقد صدق من قال: كان الأجدر تسميته بشرح الطحاوية لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم, فإن الشيخ ابن أبي العز يكثر النقل عنهما دون التصريح باسميهما وهو معذور في ذلك – رحمه الله تعالى – ومن أروع وأصوب النسخ: النسخة التي تقع في مجلدين بتحقيق وتعليق وتقديم وتخريج أحاديث للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي والشيخ شعيب الأرناؤوط وهي من منشورات مؤسسة الرسالة في بيروت. والله أعلم. وذكر بعض أهل العلم القصة التالية: دخل عبد الجبار الهمداني – أحد شيوخ المعتزلة – على الصاحب ابن عباد وعنده أبو اسحق الاسفراييني – أحد أئمة السنة – فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه الفحشاء, فقال الأستاذ فورا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء, فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعْصَى؟ قال الأستاذ: أيُعْصَى ربنا قهرا؟ فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إلىّ أم أساء؟ فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبهت القاضي عبد الجبار. النوع الثاني: الإرادة الشرعية وهي التي تأتي بمعنى المحبة ولا تكون إلا في ما يحبه الله تعالى ويأمر به ويرضاه ولا يلزم بها وقوع مراده سبحانه وتعالى. فالله تبارك وتعالى يرضى لعباده الإيمان ويأمرهم به وخلقهم لعبادته سبحانه وتعالى ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب, ولكن هل كل الناس يعبدون الله؟ الجواب طبعا لا. وهذا معنى قول الشيخ – رحمه الله – أنه لا يلزم بها وقوع مراده سبحانه وتعالى. ومثال الإرادة الشرعية في القرآن الكريم قوله تعالى: وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (النساء: 27) , وهذه الآية جاءت في سياق بيان ما حرم الله علينا من النساء وما أحله لنا منهن وهذا تشريع من الله تبارك وتعالى والله يحب منا أن نمتثل الأمر وننتهي عن النهي وهو سبحانه وتعالى يبيّن لنا ليهدينا إليه وهو جل وعلا يحب منا أن نتوب إليه فصار مراده هذا من جنس الإرادة الشرعية. وهذا بيّن واضح إن شاء الله تعالى. فيكون على ما سبق إيمان المؤمن مراد من الله تعالى شرعا لأن الله يحب الإيمان ويأمر به والإيمان من حيث الوقوع لا يلزم وقوعه من كل الناس, فصار مراد الله بهذين الإعتبارين من جنس الإرادة الشرعية. وهو كذلك باعتبار وقوعه من المؤمن مراد لله تبارك وتعالى كونا لأن الإرادة الكونية تتميز عن الشرعية بكون المراد لا بد أن يقع. فتأمل – أيها الأخ المبارك – كيف وفق الله تبارك وتعالى علماء أهل السنة للجمع بين نصوص الوحيين, دون انكار أو ضرب بعضها ببعض. وبناء على ما سبق فإن الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية هو 1 - الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد أما الشرعية فلا يلزم فيها وقوع المراد. 2 - الإرادة الشرعية لا يكون المراد فيها إلا محبوبا إلى الله تبارك وتعالى أما في الإرادة الكونية فلا يلزم ذلك. وخلاصة هذا المبحث العظيم أن ما يقع من الإنسان من أفعال أو أقوال لا تقع إلا بإرادة الله تبارك وتعالى إما كونا وإما شرعا على ما سبق بيانه.
¥