وَهَذَا حَاصِل كَلَام مَنْ يَنْفِي الصَّوْت مِنْ الْأَئِمَّة وَيَلْزَم مِنْهُ أَنَّ اللَّه لَمْ يُسْمِع أَحَدًا مِنْ مَلَائِكَته وَرُسُله كَلَامه بَلْ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَحَاصِل الِاحْتِجَاج لِلنَّفْيِ الرُّجُوع إِلَى الْقِيَاس عَلَى أَصْوَات الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي عُهِدَ أَنَّهَا ذَات مَخَارِج، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إِذْ الصَّوْت قَدْ يَكُون مِنْ غَيْر مَخَارِج كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَة قَدْ تَكُون مِنْ غَيْر اِتِّصَال أَشِعَّة كَمَا سَبَقَ سَلَّمْنَا، لَكِنْ تَمْنَع الْقِيَاس الْمَذْكُور، وَصِفَات الْخَالِق لَا تُقَاس عَلَى صِفَة الْمَخْلُوق، وَإِذَا ثَبَتَ ذِكْر الصَّوْت بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَجَبَ الْإِيمَان بِهِ ثَمَّ، إِمَّا التَّفْوِيض وَإِمَّا التَّأْوِيل وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
فانظر إلى آخر كلامه حيث تجد التجسيد لذلك الصراع الداخلي .. كان من المفروض أن ينتهي كلامه عند قوله: "وَإِذَا ثَبَتَ ذِكْر الصَّوْت بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَجَبَ الْإِيمَان بِهِ ... "فهذه النتيجة الطبيعية لما استعرضه من آراء
لكنه لا شعوريا يأتي بضميمة لا معنى لها:” ثَمَّ، إِمَّا التَّفْوِيض وَإِمَّا التَّأْوِيل وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق."
هذه الضميمة أملاها العنف الرمزي فوقع العلامة في ما يشبه التهافت ..
وهو معذور بلا شك .. ألم يحك هو نفسه تراجع ابن رجب تحت وطأة العنف!!
وفي شرحه لباب"كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ" نورد كلامه بطوله:
وَاخْتَلَفَ أَهْل الْكَلَام فِي أَنَّ كَلَام اللَّه هَلْ هُوَ بِحَرْفٍ وَصَوْت أَوْ لَا، فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة: لَا يَكُون الْكَلَام إِلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْت وَالْكَلَام الْمَنْسُوب إِلَى اللَّه قَائِم بِالشَّجَرَةِ، وَقَالَتْ الْأَشَاعِرَة كَلَام اللَّه لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْت وَأَثْبَتَتْ الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَحَقِيقَته مَعْنًى قَائِم بِالنَّفْسِ وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ عَنْهُ الْعِبَارَة كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّة، وَاخْتِلَافهَا لَا يَدُلّ عَلَى اِخْتِلَاف الْمُعَبَّر عَنْهُ، وَالْكَلَام النَّفْسِيّ هُوَ ذَلِكَ الْمُعَبَّر عَنْهُ، وَأَثْبَتَتْ الْحَنَابِلَة أَنَّ اللَّه مُتَكَلِّم بِحَرْفٍ وَصَوْت، أَمَّا الْحُرُوف فَلِلتَّصْرِيحِ بِهَا فِي ظَاهِر الْقُرْآن، وَأَمَّا الصَّوْت فَمَنْ مَنَعَ قَالَ: إِنَّ الصَّوْت هُوَ الْهَوَاء الْمُنْقَطِع الْمَسْمُوع مِنْ الْحَنْجَرَة، وَأَجَابَ مَنْ أَثْبَتَهُ بِأَنَّ الصَّوْت الْمَوْصُوف بِذَلِكَ هُوَ الْمَعْهُود مِنْ الْآدَمِيِّينَ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَر، وَصِفَات الرَّبّ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَم الْمَحْذُور الْمَذْكُور مَعَ اِعْتِقَاد التَّنْزِيه وَعَدَم التَّشْبِيه، وَأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ غَيْر الْحَنْجَرَة فَلَا يَلْزَم التَّشْبِيه، وَقَدْ قَالَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل فِي كِتَاب السُّنَّة: سَأَلْت أَبِي عَنْ قَوْم يَقُولُونَ لَمَّا كَلَّمَ اللَّه مُوسَى لَمْ يَتَكَلَّم بِصَوْتٍ، فَقَالَ لِي أَبِي: بَلْ تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ، هَذِهِ الْأَحَادِيث تُرْوَى كَمَا جَاءَتْ وَذَكَرَ حَدِيث اِبْن مَسْعُود وَغَيْره.
لاحظ أيها القاريء كيف قدم أقوال المتكلمين مع مناقشتها، وكيف ختم بقول الحنابلة مبينا حجتهم من النقل والعقل ... ذاكرا قول أحمد الصريح الواضح" بَلْ تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ" ...
أليس هذا من حنين أهل الحديث إلى أهل الحديث!!!
وهذا السلوك تجده أيضا عند مفسر كالقرطبي ... في مسألة علو الله واستوائه .. فاقرأ تفسيره لآية الاعراف:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
[قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} هذه مسألة الاستواء؛ وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً. والأكثر من المتقدّمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيّز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدّمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأوّل رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافّة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم يعني في اللغة والكَيْف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها].
فانظر –رحمك الله-كيف قابل بين آراء المتكلمين وقول من سماهم "السلف الصالح" وكيف قرر عقيدة السلف في الاستواء بوضوح .. فهل يجرؤ القرطبي-رحمه الله- على مخالفة السلف الصالح فيشهد على نفسه بعدم الصلاح؟
ومع ذلك جاء في مواضع من كلامه ما يخالف كلامه هنا ..
هل هو تناقض!
أم هو الصراع الداخلي والوقوع لا شعوريا تحت وطأة العنف الرمزي!!
أحبذ التعليل الأخير .. وللحديث بقية.
¥