تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

واستدلُّوا بعمومات النّصوص المحرّمة للأشهر الحرم، وأجاب شيخ الإسلام ثمّ من تبعه عن غزو النّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم للطائف بأنَّه تبعًا لقتالٍ هم بدؤوه فيه، فهو تبعٌ لقتال هوازن، لمّا انهزم ملكهم إلى الطائف فاحتمى بحصن ثقيف فيها، وعن سريّة أوطاس بأنَّها من تمام الغزوة التي بدأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكفَّارَ فيها بالقتال.

والظَّاهر والله أعلم، أنَّ الصَّواب ما رجّحه أبو العباس ابن تيمية، لعموم النصوص المحرّمة للأشهر الحرم وتوكيدها، فهي محرّمة) يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ ووصف الله القتال في الشهر الحرام بأنَّه كبير كما في قوله:) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (فيبعُدُ أن يكون حلالاً بعد تغليظ تحريمه.

ونهى الله عن تحليل الشهر الحرام كما في قوله:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ (، وذلك في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولاً، وأظهرُ ما يتنزَّل عليه التحليل المنهي عنه هو القتالُ.

وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر عام حجّة الوداع، فذكر في خطبته أنَّه قال: "أي شهر هذا؟ "، فسكت الصحابة حتَّى ظنُّوا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس بذي الحجة؟ "، ثم قال في آخر الحديث: "فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".

وهذا الحديث متأخِّر منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بعد سرية أوطاس، وبعد حصار الطائف، فلا يُمكن أن تكون تلك الغزوات دليلاً على النسخ مع ثبوت الحكم بعدها، وهذا من أقوى الوجوه.

وفيه أيضًا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل الشهر الحرام دليلاً على ثبوت الحرمة وتغليظها، ولا يُمكن أن تؤكَّد حرمة الشهر الحرام بما هو أضعف منها، بل بما صار بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حلالاً مباحًا لا شيء فيه، وأقل ما في تشبيه حرمة الدماء والأموال والأعراض بحرمة الشهر الحرام، استواء الحرمتين في الثبوت والديمومة، وفي التغليظ والقوَّة، وظاهر الحديث أنَّ حرمة الشهر الحرام إذا اجتمعت مع حرمة البلد الحرام، وحرمة يوم النحر، أغلظ من حرمة الدم والمال، والظاهر أنَّ هذا الظاهر غير مراد، وإنَّما أكَّد الحكم المجهول لدى أكثرهم بالحكم الذي يعرفونه ويقرُّون به، مع العلم بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليؤكِّد الحكم الغليظ ويبيّن استمراره، بحكم مؤقَّتٍ يعلمون نسخة بعد هذا الكلام بمدة يسيرةٍ.

وقال جل وعلا:) جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِد (فبيّن أنَّه جعلها قيامًا للناس يقوم بها أمرهم ويأمنون ويسعون في معايشهم، ومثل هذا لا غنىً عنه للناس في أي زمان، وقد قرن الله سبحانه بين الكعبة والشهر الحرام في هذا المقصد وهذا الأمر، والكعبة حرام لا تحل إلى يوم الدين، فدلالة الاقتران تقتضي أنَّ الشهر الحرام كذلك.

ودعوى النسخ لا تستقيم في شيء من النصوص التي استدلُّوا بها:

فأمَّا العمومات؛ فلأنَّ نصوص التحريم خاصَّة، فما جاء عامًّا بعدها حمل على ما عدا الأشهر الحرم، والعامّ لا ينسخ الخاصّ، وما ذكروا من السُّنَّة لا ينتهض على الدلالة على النسخ، لما ذكر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، من أنَّها كانت تبعًا لا ابتداءً، ولما ذكره ابن العربي من أنَّها نصوص ضعيفةٌ، وهذا يحتاج إلى تحرير، والله أعلم.

وأمَّا قوله تعالى:) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً (؛ فهو وإن كان أظهر من غيره في النّسخ إلاَّ أنَّه لا ينتهض به، فقوله) كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً (يُحمل على قتالهم معاملةً بالمثل لا ابتداءً، فيكون موافقًا لقوله تعالى:) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ (، وتكون الكاف فيه للتعليل.

وقد يُقال أيضًا: إن كان قوله:) قَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً (، داخلاً فيه الأشهر الحرم، فإنَّ قوله:) كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّة (كذلك لا محالة، فدلَّ على أنَّ المراد قومٌ من المشركين يُقاتلوننا كافَّةً في الشهر الحرام وغيره، وهؤلاء لا خلاف في مُقاتلتهم في الشهر الحرام كما يأتي بإذن الله.

وقد يُقال: إنَّ لفظ) حُرُمٌ (في الآية تضمّن تحريم القِتال، فيكون العموم في قوله) كَآفَّةً (متعلّقًا بمحذوفٍ تقديرُهُ "بعدها" أو نحوه، فيكون كقولك: هذا الشهر حرامٌ، وافعل ما بدا لك في كلِّ وقتٍ، فيُفهم منه: ما عدا الشهر المحرَّم.

وتبقى النصوص المحكمة الظاهرة الصريحة، المؤكّدةُ بأنواع المؤكِّدات، سالمةً على ظاهرها، من غير معارِضٍ، وتجتمعُ النُّصوص عليه بلا إشكال.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير