[هل نسخ تحريم الأشهر الحرم؟]
ـ[ابن مسعود]ــــــــ[04 - 10 - 04, 10:54 م]ـ
تحريم الأشهر الحرم في أول الأمر محلّ اتّفاق، وقد دلَّت عليه النصوص والآيات، فمنها قوله تعالى:) مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم (، وقوله:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ (الآية، والنهي عن تحليلها حكمٌ صريحٌ بحرمتها، وقوله:) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ (فأخبر الله أنّه حرّم الأشهر، وذكر أنّ الكفّار استحلّوها على جهة الإنكار عليهم، وجعل ذلك كفرًا منهم.
كما دلّت عليه الأحاديث، ومنها قوله صلى الله عليه وسلّم: "ألا إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، وذهب أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة، وجماهير السلف والخلف إلى أنَّ تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخٌ، واختلفُوا في النَّاسخ:
فمنهم من قال: إنَّ النَّاسخَ قولُهُ تعالى:) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ (، وهو قول الشافعيِّ، وجهه أنَّ الله عمَّ الأزمان فقال:) حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ (، فدلَّ على أنَّ ما قبل هذه الغاية مأمورٌ فيه بالقتال.
ومنهم من قال: إنَّ النَّاسخَ قولُهُ تعالى:) فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ (، ووجهه أنَّه عموم مؤكّد بقوله تعالى:) حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ (، والأوَّل أقوى دلالةً على النسخ لأنَّ الثاني نصَّ على الأمكنة، والأوَّل نصَّ على الأزمنة، والأشهر الحرم من الأزمنة.
وجميع آيات السيف والقتال، يُحتمل أن تكون ناسخةً لتحريم الأشهر الحرم، ولكنها مجملة في النسخ غير مبيَّنة، فلا يُكتفى بها في ذلك بل لا بدَّ من دليل مبيِّنٍ للنسخ، لما تقرَّر من أنَّ العام لا ينسخ الخاصَّ، إلاَّ أنَّ السُّنَّة جاءت مُبيِّنةً لها، فقاتل النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد آيات براءة أهلَ الطائف، وأرسل سريَّةً إلى أوطاسٍ، في الأشهر الحرم.
وأمثل ما ذكروا أنَّه الناسخ، قوله تعالى:) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً (، وهو قول الزهري وغيره.
وجهه أن الآية جمعت بين تحريم الأشهر الحرم وقتال المشركين، وقوله قاتلوا المشركين، متعلّقٌ به محذوفٌ تقديره "فيهنَّ"، كما تقول: فلا تأكل منه ولا تشرب، تعني: ولا تشرب منه، وعلى هذا التَّوجيهِ يكون نصًّا خاصًّّا في القتال في الأشهر الحرم.
وإن نُوزع في التقدير الذي يقتضي أنَّ الآية نصٌّ في إباحة الأشهر الحرم، فقد يُقال إنَّ الآية عامةٌ في القتال، ووردت في سياق الأشهر الحرم فهي داخلةٌ فيها بدلالة السياق.
فتكون الآيةُ قرَّرت أحد حكمي الأشهر الحرم، وهو تغليظ المعاصي عمومًا، ونسخت الآخر، وهو تحريم القتال فيهنَّ.
وذهبَ عطاء، ونصره شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ وابنُ القيِّم: إلى بقاء حكم الأشهر الحرم، واستدلُّوا بحديث جابرٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم: "كان لا يغزو في الشهر الحرام إلاَّ أن يُغزى، فإذا حضره أقام حتّى ينسلخَ"، ولا يخفى أنَّ دلالته ضعيفةٌ، لأمرين:
الأوَّل: أنَّ التَّرك لا يلزم منه التحريم، فقد يكون مجانبةً لما يشنّع عليه العرب به، كما ترك قتل بعض المنافقين الّذين لم تقم عليهم بيّنة بكفر صريح، لئلاّ يُقال إنَّ محمّدًا يقتل أصحابه.
الثاني: أنَّ كلام جابرٍ يحتمل أنه حكايةٌ منه لحال النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل النَّسخ، والنزاع ليس في تحريم الأشهر الحرم أوَّل الأمر، وإنَّما النزاع في صحَّة النسخ.
¥