والمتأمل في الوحي يرى ذلك واضحاً إن شاء الله تعالى. فنرى في القرآن ردوداً على اليهود والمشركين فيها شدة ظاهرة، فيصفهم بأنهم لا يعقلون وأنهم كالأنعام وأن مثلهم كمثل الحمار، فهذا مقام رد عليهم وتحذير للأمة من قبيح مقالتهم. وفي قصص الأنبياء عليهم السلام - لا سيما إبراهيم وموسى - من النقاش العقلي الهادئ ما هو أقل شدة وأكثر ليناً مما سبق. وفي مقام النصح يظهر من الشفقة واللين والرحمة ما لا يظهر مثله فيما مضى، كما في نصيحة مؤمن آل فرعون لهم وكما في نصح المؤمن في سورة ياسين لقومه وكما في نصح إبراهيم لأبيه.
ثم الناظر في عمل أهل العلم يرى ذلك كذلك، فكتب الردود - كرد الدارمي على المريسي مثلاً - فيها شدة ظاهرة، وكذلك في كلام أئمة الجرح والتعديل حال التحذير من المخالف. بينما نرى ما يروى من مناظرات الأئمة مع المخالفين ما هو دون ذلك بكثير، نرى فيها نقاشاً بعلم ودليل وهدوء، كالذي يروى عن الإمام أحمد مع قاضي المتوكل وقصة عبد العزيز الكناني وغيرهما. ونراهم في مقام النصح يتلطفون ويدعون للقارئ بالرحمة والهداية ونحو ذلك.
والمتأمل يجد ذلك عين الحكمة، لأن مقام الرد والتحذير يقتضي إظهار النقص في المخالف حتى لا يغتر به الجاهل، كما يقتضي التشنيع عليه حتى ينفر منه الناس. ومقام المناظرة يقتضي الهدوء، لأن المراد بها إظهار الحجة والإقناع، وهذا لا يناسب التشنيع والتهويل، بل لعل ذلك يكون علامة على ضعفه، كما لا يقتضي اللين لئلا يفتتن السامع بالمخالف أو تهون في نفسه مسألة الخلاف. ومقام النصح يقتضي التلطف ليكون ذلك أدعى للقبول، وليكون الكلام أوقع في نفس السامع، وقد قيل: إن الحق مر، فلا تزد فوق مرارته مرارة النصيحة، ولذا نرى الأطباء فقهوا ذلك فيضعون الدواء المر في قرص من السكر ليقبله المريض. والله أعلم.
والثاني - حال المخاطب - يقوم على ركيزتين:
أ. مقدار الخطإ الذي يتم النقاش حوله.
ب. مدى تعلق المخاطب بهذا الخطإ.
ففي الأول لعله يقال: يصلح من الشدة في نقاش مسائل الأصول الظاهرة ما لا يصلح في نقاش مسائل الفروع الخفية، كما يصلح من اللين في مسائل الخلاف الفقهي المعتبر ما لا يصلح في نقاش مسائل الخلاف العقدي البدعي.
وفي الثاني يقال ما مر سابقاً من أن المخاطب على أربع درجات: الأولى الجاهل الغافل، والثانية الذي غلبته شهوته، والثالثة الذي غلبته شبهة مع طلبه للحق، والرابعة المضل الذي لا يريد الحق. فالأصل في الأول اللين، وفي الثاني التذكير، وقد يكون معه من الشدة ما لا تكون مع الأول بحسب استغراقه في شهوته وإصراره عليها، وفي الثالث النقاش الحسن، وقد يكون في تحذير الناس منه من الشدة ما يناسب ذلك، أما الرابع فالأصل معه الشدة. والله أعلم.
ولعل الأصل في أهمية معرفة حال المخاطب قول الله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) فبين لهما حال المخاطب ليستعدا لذلك، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب ... ) فبين له حال المخاطب كذلك.
والثالث - درجة المخاطِب - فلا شك أن من كان له سلطان كالأمير والمعلم والأب ونحوهم لهم من الشدة على من تحتم ما ليس لغيرهم. كما أنه يقبل في أكثر الأعراف من ذي المنزلة والجاه من الشدة على عامة الناس ما لا يقبل ممن هو دونه. أما عامة الناس - لا سيما أمثالي من المجاهيل - فلا يقبل منهم ما يقبل ممن سبق وصفه. وعلى هذا - والله أعلم - ينزل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
وهذا الأمر مرتبط بالذي قبله، لأن مسألة حال المخاطَب والمخاطِب مسألة نسبية، فيمكن أن تعكس الصورة هنا، فيقال: المخاطَب (بالفتح) إن كان أميراً حسن معه من اللين ما لا يحسن مع من كان دونه من الوجهاء فضلاً عن عامة الناس، لا سيما من كان لك عليه سلطان.
والرابع - ظروف الخطاب - فيراعى في ذلك ظهور السنة من ضعفها. ففي حال ظهور السنة تفيد الشدة في سد الباب على المخالف، وفي تعظيم المخالفة في نفوس الناس. أما في حال ضعف السنة فعلى العكس، يفيد اللين في تأليف قلوب الناس، وحماية أهل السنة من الأذى ليتمكنوا من استمرار دعوتهم.
¥