وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء وأجاب عن حديث لا تشد الرحال بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب
وأما الأولون فإنهم يحتجون بما في الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا} وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة ولو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع
وأما الجمهور فيوجهون الوفاء بكل طاعة كما ثبت في صحيح البخاري: {عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه} والسفر إلى المسجد هو طاعة فلهذا وجب الوفاء به
وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الصحيح {من تطهر في بيته ثم أتي مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة}
قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين لمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في إبانته الصغرى من البدع المخالفة للسنة والإجماع وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد فإن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد الرحل وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر وقوله إن قوله {لا تشد الرحال} محمول على نفي الاستحباب يجاب عنه من وجهين:
أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات ومن اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنه طاعة فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذ قربة ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك وأما إذا قدر أن شد الرحل إليها لغرض مباح فهذا جائز من هذا الباب
الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم وما ذكروه من الأحلديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة
والإمام أحمد رضي الله عنه أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمده عليه في ذلك إلا حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام} وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه وكذلك مالك في الموطأ: روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني} وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه عنده فقال: يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني} فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء
¥