ولد جمال الدين الإسنوي في نهاية شهر (ذي الحجة 704هـ=يوليو 1306م) بإسنا، واسمه "عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر"، حفظ القرآن الكريم في صغره وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم قصد القاهرة مدينة العلوم وقبلة طلاب العلم في ذلك العصر، وذلك سنة (721هـ=1321م) فأقبل على العلوم المختلفة بشغف ونهم، وعُرف عنه جودة الحفظ، واهتم في بادئ أمره باللغة العربية، حتى إنه كان لا يُعرف إلا بالنحو، وأخذ علوم اللغة عن "أبي الحسن النحوي"، و"أبي حيان النحوي" الذي قال له: "لم أشيّخ أحدًا في سنك" وذلك أن عمر الإسنوي آنذاك كان عشرين سنة، غير أن فهمه وعقله ونبوغه تجاوز هذا العمر حتى عده بعض شيوخه عالمًا مثلهم.
وواصل الإسنوي إقباله على العلوم الشرعية والعقلية واللغوية، وتلقى العلم عن أساطين العلوم في عصره ومنهم: "القطب السنباطي" و"الجلال القزويني" و"المجد الزنكلوني" و"التقي السبكي" حتى برع في الفقه والأصول واللغة.
وامتاز بقدرته الفائقة على تنظيم أوقاته بين العمل والتصنيف والتأليف، فلم يبلغ "الإسنوي" السابعة والعشرين من عمره حتى جلس لتدريس التفسير بجامع أحمد بن طولون، وكان وقتها من منارات الإشعاع العلمي والفقهي في مصر ثم تولى بعض الوظائف العامة مثل وكالة بيت المال والحسبة، إلا أنه عزل نفسه عنها لخلاف وقع بينه وبين الوزير "ابن قزوينة".
وقد انتهت إليه رئاسة الشافعية في عصره، ودرّس في كبريات المدارس في مصر، والتي كانت تعتبر بمثابة الجامعات ومنها المدرسة الملكية، والإقبغاوية والفاضلية، وكان يقضي أغلب وقته في التأليف، فأقبل عليه طلبة العلم، وانتفع به خلق كثير.
أخلاقه وثناء العلماء عليه
كان "الإسنوي" من العلماء العاملين، وكان بجانب علمه الغزير ذا أخلاق كريمة وصفات نبيلة جعلت كلامه يعرف طريقه إلى قلوب طلابه، فكان منظمًا في أوقاته، لا ينفق وقته إلا في المفيد النافع، وهي صفة استوقفت كثيرًا ممن ترجم له، فأثنوا عليها، قال "ابن حجر العسقلاني" عنه: "ولازم الاشتغال والتصنيف فكانت أوقاته محفوظة مستوعِبة لذلك".
وعُرف عنه اللين والتواضع، فكان يتودد إلى طلابه ويقربهم إليه، ويحنو عليهم ويصلهم، ويحرص على إيصال العلم لمن لا يفهمه حتى وإن اقتضى الأمر إعادته أكثر من مرة، وكان يشجع طلابه ومريديه على الحديث، فإذا ذكر بعضهم أمامه مسألة علمية أو فقهية يستمع إليها باهتمام ويصغي إليها كأنما يسمعها لأول مرة جبرًا لخاطر المتحدث .. يقول "ابن حجر" عنه: "كان فقيهًا ماهرًا ومعلمًا ناصحًا ومفيدًا صالحًا، مع البر والدين والتودد والتواضع، وكان يقرّب الضعيف المستهان، ويحرص على إيصال الفائدة للبليد وكان ربما ذكر عنده المبتدئ الفائدة المطروقة فيصغي إليه كأنه لم يسمعها؛ جبرًا لخاطره".
وكان مثابرًا على إيصال البر والخير لكل محتاج، هذا مع فصاحة العبارة وحلاوة المحاضرة والمروءة البالغة.
كان منه هذا المزج بين العلم والخُلُق، في وقت كان يظن فيه بعض العلماء أن الحزم البالغ والشدة في معاملة طلابه، وإسماعهم العلم فقط دون الاستماع منهم، مع إيجاد بون شاسع بين الأستاذ وطلابه، هي سُبُل لتبليغ العلم وأداء أمانته .. ورؤية "الإسنوي" كانت بعيدة كل البعد عن هذا الطريق؛ لأنه كان ينطلق من رؤية دينية وتربوية تؤمن أن أفضل السبل لتدريس العلم أن تقترب من طلابك، وتقربهم إليك، وتيسر على عقولهم مسائل العلم والفقه، وألا توجد فجوة بينهم وبين العلم، أو فجوة بين العلم والأخلاق، ونجح الإسنوي في ذلك فتقرب بخُلُقه إلى طلابه حتى يأخذ بأيديهم إلى علمه، فامتدت إليه آلاف الأيدي، وهفت القلوب إلى دروسه، وأقبل الناس عليه من كل مكان حتى قال عنه الحافظ العراقي: "اشتغل في العلوم حتى صار أوحد زمانه، وشيخ الشافعية في أوانه، وصنف التصانيف النافعة السائرة، وتخرج به طلبة الديار المصرية، وكان حسن الشكل والتصنيف، ليّن الجانب، كثير الإحسان".
وقال عنه ابن حبيب "إمامٌ يمّ علمه عَجَاج، وماء فضله ثَجَاج، ولسان فضله عن المشكلات فجاج، كان بحرًا في الشروع والأصول، محققًا لما يقول من النقول، تخرج به الفضلاء، وانتفع به العلماء".
وقال عنه جلال الدين السيوطي: "انتهت إليه رياسة الشافعية، وصار المشار إليه بالديار المصرية، وكان ناصحًا في التعليم مع البر والدين".
¥