بل ورد أن بعض الصحابة أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ فعن جابر – أيضا – أن رجلا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: إن لي جارية، وهي خادمتنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل؛ فقال: ((اعزل عنها إن شئت؛ فإنه سيأتيها ما قدر لها .. ))، فلبث الرجل، ثم أتى فقال: إن الجارية قد حملت. فقال: ((قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)).
وعن عمر – رضي الله عنه – قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه ويسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)).
فهذه أحاديث صريحة في جواز العزل.
الرخصة في تحديد النسل رويت عن عشرة من الصحابة:
قال ابن القيم في "زاد المعاد": ((وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة: علي وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب وزيد بن ثابت، وجابر وابن عباس، وأحمد بن علي وخباب بن الأرت، وأبي سعيد الخدري وابن مسعود – رضي الله عنهم)).
وسأقتصر هنا على نصوص ثلاثة؛ وهم: جابر، وابن عمر، وابن عباس:
فعن جابر قال: ((كانت لنا جوار وكنا نعزل)).
وعن ابن عمر أنه: كان يعزل عن أمته.
وعن ابن عباس مثله.
وهو مذهب مالك والشافعي وأهل الكوفة، وجمهور أهل العلم؛ وقد حكى الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " عن ابن عبد البر أنه قال: ((لا خلاف بين العلماء أن لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها؛ لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به))، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل.
ويقاس على العزل: استعمال العَمد الذي هو: غلاف رقيق من المطاط يعمد فيه الرجل عضوه أثناء الجماع، وكذلك استعمال كم من المطاط بوضعه على عنق الرحم، وهذا أضمن الوسائل كما هو معلوم.
حديث يعد أصلا للنيات الباعثة على العزل:
والنيات الباعثة على العزل عديدة، وقد وقفت على حديث يعد أصلا لها؛ فعن جذامة بنت وهب الأسدية – رضي الله عنها – قالت: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهى عن الغِيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيء)). قال أبو محمد الدارِمي: ((الغيلة: أن يجامعها وهي ترضع)).
كما وقفت على حديث آخر يفيد أنه صلى الله عليه وسلم تحقق أن الغيلة تضر؛ فنهى عنها: حدث المهاجر بن أبي مسلم عن أسماء بنت يزيد بن السكن – وكانت مولاته – أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقتلوا أولادكم سرا؛ فوالذي نفسي بيده: إن الغيل ليدرك الفارس على ظهر فرسه حتى يصرعه ... )).
النيات الباعثة على العزل:
وقد عد حجة الإسلام الغزالي – رحمه الله – في "الإحياء" من النيات الباعثة على العزل خمسا؛ فقال:
((الأولى: في السراري – وهو: حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق، وقد قصد استبقاء الملك: بترك الإعتاق، ودفع الأسباب ليس بمنهي عنه.
الثانية: استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها خوفا من خطر الطلق، وهذا أيضا ليس منهيا عنه.
الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه؛ فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم: الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله، حيث قال:? وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ?، [هود: 6]، ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره - مع كونه مناقضا للتوكل – لا نقول: إنه منهي عنه.
الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث؛ فهذه النية فاسدة. لو ترك بسببها أصل النكاح، أو أصل الوقاع؛ أثم بها، لا يترك النكاح والوطء، فكذا في العزل، والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أشد، وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافا من أن يعلوها رجل فكانت تتشبه بالرجال، ولا ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح.
الخامسة: أن تمتنع المرأة لتعززها ومبالغتها في النظافة والتحرير من الطلق والنفاس والرضاع، وكان ذلك عادة نساء الخوارج؛ لمبالغتهن في استعمال المياه حتى كن يقضين صلوات أيام الحيض، ولا يدخلن الخلاء إلا عراة؛ فهذه بدعة تخالف السنة، فهي نية فاسدة)).
ولا يخفى أن ما ذكر خاص بوسائل تحديد النسل الدائرة حول عدم وصول ماء الرجل إلى رحم المرأة، أما بعد وصوله إلى الرحم؛ فقد وقفت على قول بالجواز في المذهب المالكي، لكن مع الكراهة:
قال الدَرْدِيرُ في شرحه لقول الشيخ خليل – رحمهما الله: ((ولزوجها – الأَمَة – العزل إذا أذنت وسيدها؛ كالحرة إذا أذنت)). ما نصه: ((ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح؛ حرم إجماعا))، قال الدسُوقي في حاشيته: ((قوله: ولو قبل الأربعين. هو المعتمد، وقيل: يكره إخراجه قبل الأربعين)).
أما إتلاف الحمل بعد حدوثه – وهو ما يسمى في عرف الطب بـ: تحريض الإجهاض؛ فهو حرام، ولا يصار إليه إلا عند الضرورة القصوى، من وجود خطر يهدد حياة الحامل.
وقد ذكر الدكتور المصري: محمد عبد الحميد؛ في مقال نشره بمجلة "الإسلام" المصرية، منذ ثلاثين سنة: أنه من جملة الأسباب التي تحمل طبيبا على تحريض الإجهاض:
1 – السل الرئوي.
2 – الالتهاب الكلوي.
3 – أمراض القلب.
4 – ضعف القوة العقلية.
5 – الاضطرابات النفسية.
6 – القيء الذي يخافه على حياة الحامل.
7 – الترف الرحمي.
تحت شروط وقيود دقيقة، وعلامات قوية لا بد منها للطبيب؛ لكي لا يكون العمل جنائيا، وليس للطبيب أن يستبد برأيه في التحقق من هذه العلامات والشروط، بل لا بد له - ليكون مرتاح الضمير قبل الإقدام على عملية تحريض الإجهاض - من استشارة زميل له مختص – على الأقل – أو أكثر من زميل – على الأفضل – وأغلب الظن أنه داخل في قوله تعالى:? ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ?. [البقرة: 195].
هذه دلائل العلاج الذي يمكن للفرد أن يقوم به بمحض اختياره.
-يتبع-
¥