ـ[المسيطير]ــــــــ[02 - 11 - 06, 09:25 م]ـ
ثانياً: استقلال الكرسي:
ينبغي أن يكون معتلي كرسي الإفتاء منحازاً إلى الحق لا غير، منتصراً له على كل ما سواه، مستعملاً في فتاويه العدل والإنصاف والاستقامة، لا يجنح إلى باطل، ولا ينحاز إلى جهةٍ غير جهة الحق المحض، هذا مقتضى النزاهة التي هي عنوان الإمامة والجلالة في الدين، وهل ابتُلي الأئمة، وأُلهِبَت ظهورهم بالسياط إلا من أجل ذلك!
ومن لطيف ما لاحَ لي هنا مما هو من مُلَحِ العلم لا من صلبِه، أن النحاة يقررون أن لفظة " كرسي " غير منسوب، فالياء فيه ليست للنسب، قلت: فكذلك ينبغي للمفتي أن لا يكون منسوباً إلى غيرِ جهةِ الحقِّ، نزاهةً واستقلالاً، وأن يستحضر أنَّ لهذه السُّدَّة حرمةً وذِمَاماً، وأن يكون مقامه أشد امتناعاً من لِبْدَة الأسد.
إنه لا أضرَّ على الخلق من أن تُمنع كلمة الحق من أن تأخذ طريقها إلى الأسماع، وأن يُحجز أهلها عن النطق بها، لقد قال بعض الفقهاء: إنَّ تشديدَ الشرع على الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يزكونها؛ ناشئٌ من أنَّ بهما قوامَ الدنيا، ونظامَ أحوالِ الخلق، فإنَّ حاجاتِ الناس كثيرةٌ ولا تنقضي إلا بهما، بخلاف غيرهما من الأموال، فمن كنَزَهما فقد أبطلَ الحكمةَ التي خلقهما اللهُ لها، قالوا: "كمن حبس قاضي البلد، ومنعه أن يقضي حوائج الناس " [مغني المحتاج (1/ 389)].
ـ[المسيطير]ــــــــ[02 - 11 - 06, 09:26 م]ـ
ثالثاً: فتون الكرسي:
وكما أن للكرسي نشوةً وفتنةً، فله أيضاً فتونٌ وابتلاء، ولكل صاحب سلطان ابتلاء، فأما فتنة العلماء في كل عصر فإنها بالمحل الذي لا يخفى.
ومعلومٌ ما حصل للأئمة: أبي حنيفة حين ضربه ابن هبيرة، وحين خالف أهل الأمصار في مسائل الفقه، ومالك بن أنس حين أفتى بعدم لزوم الطلاق للمكره، فجرَّدَه جعفر بن سليمان، ومدَّه، وضربه بالسياط، ومُدَّت يدُه حتى انخلعَ كتفاه، والشافعي حين كتب الرد على مالك في مصر، وأحمد حين خالف مذهب السلطان في القرآن، وغير ذلك من الابتلاءات بسبب قلم العلم، وكرسي الفتيا.
ولئن كان هذا السبيل محفوفاً بالفتون من قِبَلِ العامة والخاصة، فإن خير ما يستحقبه الفقيه الصبر واحتمال الأذى، لقد قال نافع بن الأزرق الخارجي لرفيقه يوماً: قم بنا إلى هذا الذي نصب نفسه لتفسير القرآن بغير علم حتى نسأله ـ يعني ابن عباس ـ، وردَّ ابنُ عباس عليه أبلغ ردٍّ في قصةٍ مشهورة، وروى الطبري أنه قال لابن عباس: "يا أعمى البصرِ، أعمى القلب، تزعم أن قوماً يخرجون من النار، وقد قال الله _جل وعز_: "وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا" [سورة المائدة (37)]، فقال ابن عباس: ويحك اقرأ ما فوقها، هذه للكفار "اهـ[تفسير الطبري (6/ 228)].
ولَكَم يحتاج الفقيه هذا الخلق عندما يلتقي بأصحاب الوجوه الثخينة.
ومن فتون الكرسي: الفتيا بغير علم ارتماءً واعتماءً، ولما كتبَ أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي ـ رضي الله عنهما ـ أنْ (هلمَّ إلى الأرض المقدسة)، فكتبَ إليه سلمانُ: (إنَّ الأرضَ لا تقدِّس أحداً، وإنما يقدِّس الإنسانَ عملُه، وقد بلغني أنك جُعلتَ طبيباً، فإن كنت تبرىءُ فَنِعِمَّا لك، وإن كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار)، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما، وقال: (متطبِّبٌ والله، ارجعا إليَّ، أعيدا عليَّ قصتكما) [الموطأ (2/ 769)، تاريخ دمشق (21/ 441)].
قال الشربيني الشافعي: "فما بالك بمن ليس بطبيبٍ ولا متطبِّب "اهـ[مغني المحتاج (4/ 372)].
ـ[المسيطير]ــــــــ[02 - 11 - 06, 09:27 م]ـ
رابعاً: اعتدال الكرسي:
للكرسي أربع قوائم، وما من نقصٍ في قائمةٍ منها؛ إلا ويتبعه جورٌ في الجانب الذي يقابلها، ويكون ذلك الجور بمقدار نقصان تلك القائمة عن الاستواء.
وكذا يُتحرَّى في شأن الفتيا النمط الأوسط، فإن المفتي البالغ ذروة الدرجة هو " الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال " [الموافقات (4/ 258)].
إنَّ شأن الفتيا مختلف عن شأن الدرس الفقهي العام، فإن أهل العلم يقررون في كتب الفقه من متون وشروح أصول المسائل وفروعها على سبيل الابتداء، فأما في مجال الفتيا فإن الفقيه لا يُسأل عن أصل المسألة ـ غالباً ـ، وإنما يُسأل نازلة خاصة، هي من موارد الاشتباه، ولعل في تضاعيفها ـ عند التأمل ـ ما يستدعي الترخيص أحياناً، أو الحمل على العزيمة أحياناً أخرى، والأصل أن تُلزمه العزيمة إن كان يصلح لها، وتصلح له، وإلا فلا مناص من الترخيص، وقد قيل: العذر مع التعذر.
ولقد تطالعنا الكراسي الفضائية ببعض ما عناه القائل:
تطالعنا بتلفيق الكلامِ
فتاوى البعض في حِلِّ الحرامِ
بأنقالٍ على وهنٍ بناها
كبيت العنكبوتِ على الثمامِ
محاولةٌ لها أصلٌ قديمٌ
وكان بها أبو بكرٍ حذامِ
إنَّ شأنَ العامة ـ وبالأخص النساء ـ أن يراجعوا المفتي المرةَ إثرَ المرة، كيما يظفروا منه برخصةٍ، والحازم هو الذي يرعى مراضي الحق، لا شهوات الخلق، وقمينٌ به أن يقول إذْ يراجعنه فيما لا يحلُّ: "إنَّكنَّ صواحبُ يوسف".
¥