[تبعات كرسي الإفتاء.]
ـ[المسيطير]ــــــــ[02 - 11 - 06, 09:23 م]ـ
تبعات كرسي الإفتاء
للشيخ الكريم / خالد المزيني
6/ 10/1427
لكل منصبٍ تبعاته التي يستمدها من طبيعة العمل الذي يتعاطاه القائم به، ثم تعظم التبعة بقدر عظمة ذلك المنصب، إذا تقرر هذا؛ فما الظن بمنصبٍ ينطق فيه القائل باسم الله تعالى، ويترجم فيه عن الحق سبحانه، ويقوم فيه مقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمته، وما الظن بقلمٍ هو أعلى الأقلام، ولسانٍ هو أشرف الألسنة، الظنُّ أنْ لا منصب يسمو فوق هذا المنصب، حاشا منصب النبوة.
لقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله، يركبون ثبجَ هذا البحرَ، ملوكاً على الأَسِرَّة، أو مثل الملوكِ على الأَسِرَّة) [البخاري (2636)، ومسلم (1912)].
ولئن كان المقصود بهذا ـ أصالةً ـ: الغزاة في سبيل الله تعالى، فإن لأهل العلم، "المستبحرين" في فقه الشريعة، ووارثي علوم الأنبياء، الماضين على سبيل "الجهاد" العلمي؛ من هذا الشرف الباذخ والمقام الشامخ؛ بقدر استبحارِهم فيه، وبمقدار نصرتهم لهذا الدين، فهؤلاء بالكتب، وأولئك بالكتائب.
لقد كانت كراسي الدرس والفتيا من الأمرِ الأول، وكان يقال للعلماء قديماً: الكراسي بما كانوا يعلِّمون الكتاب وبما كانوا يدرسون، وَ " لأنهم المعتمَد عليهم " [تفسير القرطبي (3/ 276)].
وكان الملوك والأقيال والرؤساء يتفاخرون باحتفاف كراسي العلماء بين أيديهم، قال الشاعر:
يحف بهم بيض الوجوه وعصبةٌ ... كراسي بالأحداث حين تنوبُ
أي: "علماء بحوادث الأمور"اهـ منه.
ألا ما أجل ذلك الوصف الذي أطلقه إمام الحرمين على المنتصب لإفتاء الناس، يقول: "المفتي مناطُ الأحكام، وهو ملاذُ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال "اهـ[البرهان (2/ 1330)]، فما أحرى أهل الفتيا أن يتدبروا هذه الإضاءة من فقيهٍ أصولي كبير.
لقد كانوا يُعظِّمون هذا المنصب، ويرون أنْ لا يعتلي الكرسي إلا من أمضى دهوراً في الدرس والبحث والتنقيب في حِلَق العلم ومعاهده، ومدونات الفقه وكراريسه، حتى تختلط هذه بلحمه ودمه، حتى إنهم كانوا يقولون: "التاجرُ مَجْدُهُ في كيسِه، والعالِم مَجْدُهُ في كرارِيسه "، ويتفاضل الناسُ عندهم بقدر تفاضلهم في هذه المنزلة، كما قيل: "خير هذا الحيوان الأناسيّ، وخير الأناسيّ الكراسيّ"، [أساس البلاغة؛ للزمخشري، مادة (كرس)].
وإذا كان كرسي الإفتاء بهذه المثابة من الفضل وسمو الرتبة، فإن له كذلك من الذِّمام والتبعات ما ينبغي للمتسنمين له أن يستحضروها عند كل جولة من جولات الإفتاء، وكل حلقةٍ تلفازية يعقدونها لأجل ذلك، بل عند كل سؤالٍ يتصدَّون للجواب عنه.
كيف وهؤلاء هم وُرَّاث النبوة، وفي صحيح مسلم [(2/ 597)]، من حديث أبي رفاعة أنه قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب: يا رسول الله رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وترك خطبته، حتى انتهى إليَّ، فأتي بكرسي حسبتُ قوائمَه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها.
إنَّه ليس المقصود بكرسي الإفتاء "هنا": ذلك المقعد الذي يمتطيه المفتي حين يمارس دوره في إفتاء الناس، وإنما المقصود هذه الوظيفة ذاتها، بكل ما تحمله من مسؤوليات تقتضي الالتزام بالأخلاق اللائقة بهذا المنصب السامق.
إذا تقرر ذلك فهذه إلماعةٌ إلى شيءٍ من أخلاقيات كرسي الفتيا وتبعاتِه:
ـ[المسيطير]ــــــــ[02 - 11 - 06, 09:24 م]ـ
إذا تقرر ذلك فهذه إلماعةٌ إلى شيءٍ من أخلاقيات كرسي الفتيا وتبعاتِه:
أولاً: نشوة الكرسي:
إن لكرسي التصدُّر ـ أيّ كرسي كان، وبالأخص كرسي الإفتاء ـ نشوةً خاصة، يشعر بها صاحبها بمجرد استوائه عليه، أوَليس قد ظاهى الملوك باعتلاء الكراسي، وصار مملي الأسئلة عليه كالوزير بين يدي الملك!.
لا؛ بل ربما غبطه بعض الملوك على ما هو فيه، كما قال الخليفة المأمون للقاضي عمر بن حبيب العدوي:" إن نفسي ما طلبَت مني شيئاً إلا وقد نالته، ما خلا هذا الحديث، فاني كنت أحبُّ أن أقعد على كرسيٍّ، ويقال لي: من حدَّثَك؟، فأقول: حدثني فلانٌ، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين فَلِمَ لا تُحَدِّث؟، قال: لا يصلح الملكُ والخلافةُ مع الحديثِ للناس "اهـ[تاريخ بغداد (11/ 199)].
وما لنا نعجب من اهتزاز الكرسيِّ نشوةً وطرباً، والسؤالاتُ تنهال على هذا المفتي من كل حدب وصوب، تستفتيه في كل شيء، من الذرة إلى المجرة!.
ولربما قال في مسألةٍ بغير ثبت، جرَّاءَ هذه النشوة المطربة، ثم لما استفاقَ؛ راجعها في مظانها فتيقن صواب نفسه، ففرح بذلك فرحَ الطبيب ببرءِ مريضه، ويا ويحَه إن أدرك أنه قد اختبط!
قال الإمام الشافعي: "من تكلَّفَ ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب، إن وافقَه من حيث لا يعرفه: غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئِهِ غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمُه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه "اهـ[الرسالة (53)].
إنه إنما تصلح الدنيا بصلاح كُرْسِيَّي العلم والولاية، "وإذا خانَ أهل الأمانات، وفسدَ أهل الولايات؛ كان الأمر كما قال الأول:
بالملح يُصلَح ما يُخشى تغيُّرُه
فكيف بالملحِ إن حلَّت به الغِيَرُ"
[سراج الملوك؛ للطرطوشي (167)].
¥