لقد صلى أصحاب المدرسة المقاصدية عندما حانت الصلاة، ولم ينظروا إلى نص كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بقدر ما نظروا إلى المقصد الذي أراده، إذ كان مقصده صلى الله عليه وآله وسلم، المبادرة إلى استئصال خطر اليهود، ومعاقبتهم على غدرهم وخيانتهم، فأراد من الصحابة مباشرة الذهاب، وألا ينشغلوا عنه بشيء، ففهموا قوله ضمن هذا الإطار.
بينما رأى أصحاب المدرسة النصية أن نص رسول صلى الله عليه وآله وسلم مقدم، وأنه لا صلاة عليهم حتى يصلوا إلى المكان الذي ذكره صلى الله عليه وآله وسلم وإن خرج وقت الصلاة.
فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد الفريقين، ولم يصوب أحدهما على الآخر، لأن مأخذهما في الاجتهاد صحيح، فهذا إقرار من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمدرستين، وليس مجرد إقرار للرأيين.
وهذا هو المقصد من هذه الحادثة ومن هذا الإقرار، أن يكون ذلك إقرارا للاختلاف إن كان صدوره عن النظر إلى المقاصد المعتبرة في خطاب الشارع، في مقابلة اعتبار المدلول اللفظي للنص، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أقر هذا النوع من الاعتبار، وليس الاعتبار الآخر بحاجة إلى هذا الإقرار، لأن الأصل في الخطاب أن يلتزم بمدلوله النصي.
وقد أشار إلى هذا الاستنباط مجموعة من العلماء أذكر منهم الإمام النووي رحمه الله، حيث قال في هذا الحديث: (وأما اختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها، وتأخيرها، فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم بأن الصلاة مأمور بها في الوقت، مع أن المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحد الظهر أو العصر إلا في بني قريظة) المبادرة بالذهاب إليهم، وألا يشتغل عنه بشيء، لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث إنه تأخير، فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظرا إلى المعنى لا إلى اللفظ، فصلوا حين خافوا فوت الوقت، وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته فأخروها، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين، لأنهم مجتهدون، ففيه: دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس، ومراعاة المعنى، ولمن يقول بالظاهر أيضا) [1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=26#_ftn1)
إن الساحة اليوم لتعاني من صراعات وتطاحنات، بسبب الخلاف في جزئيات اختلف فيها الأولون والآخرون، ولم يستطع أحد أن يحسم فيها النزاع أو يفصل فيها القول، لأن طبيعة الجزئيات ألا يهتم الشارع بها كثيرا، لذا فإن تحرير النزاع وفض الخلاف في هذه المسائل متعذر، لعدم وجود النصوص الصريحة في هذه الجزئيات، وليس لدى من يناقش في هذه القضية ويؤلف إلا أن يستبطن الكتب ويستخرج أقوال من وافقوه الرأي، وليس على من يرد عليه إلا أن يكرر العملية في الاتجاه المعاكس، فتعقد الجلسات، وترمى الكلمات، وتتغير القلوب، وتتشاحن الأنفس، ويبقى الخلاف في المسألة كما كان.
وقد حصل لنا ونحن طلبة، ما يحصل عادة لكل من كان في مراحلنا وأعمارنا، فكنا نقيم الدنيا ولا نقعدها، ونرى أن من واجبنا تبيين الحق ورد الباطل، وكانت قضايانا محدودة ومحصورة، ولم تكن قضية منها تتجاوز سنن الصلاة أو اللباس أو العادات، ونحو هذا.
وكنت قد ناقشت مرة أحد الطلبة الذي أنكر علي أنني أقبض بعد الركوع، وبعد فترة وجيزة من النقاش، رماني بكلمة كبيرة، وكدت أن أرد عليها بأكبر منها إلا أن الله سلم، وفي المساء تحاكمنا إلى شيخنا الشيخ عطية سالم رحمه الله، فأفتانا بأنه لا يجوز النقاش في هذه المسائل أصلا.
لقد أدرك رحمه الله بأن النقاش في هذه المسائل لا يزيد المسألة وضوحا، ولا يفيد الطلبة علما، وإنما يؤدي إلى شيء واحد، وهو التنافر والتقاطع والتدابر.
وهذه آفة تجاوزها الصحابة الكرام، فقد كانوا يختلفون في المسائل التي لو خالف فيها بعضنا لكُفر، ومع ذلك فقد كانوا كما قال الله عنهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) وهذا ما ينقصنا اليوم، وهذه هي المبادئ التي نحتاج إلى أن نربي عليها أبناءنا وطلبتنا، وما درس بني قريظة إلا نموذج راق للاختلاف، وصورة مميزة لمجتمع مسلم متخلق.
فلنحافظ على أخوة الإسلام، ولنجعلها رأس المال الذي لا نقبل أن تطاله الأيدي، ولنترك كل ما من شأنه أن يغل القلوب ويشحن الصدور، فلن ندخل الجنة إلا إذا ملئت قلوبنا حبا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتي تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم) [2]
[1] شرح النووي على مسلم 12/ 98
[2] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=26#_ftnref2) مسلم برقم 203 وأبو داود برقم 5195 واللفظ له
http://hameddd.maktoobblog.com/