[فقه الاختلاف في قصة بني قريظة]
ـ[حامد الإدريسي]ــــــــ[22 - 03 - 08, 04:26 م]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الاختلاف بين الناس أمر قضاه الله قبل خلقهم، وكتبه عليهم منذ أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، فلا يزالون مختلفين إلى أن تقوم الساعة، ولو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة، لكنها السنن التي لا تنخرم، والنواميس التي لا تتبدل، على ما اقتضته حكمته، وجرى به عدله (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا).
إذن فلا بد من الاختلاف، وإن اختلفت درجته، وتباينت حدته، وتعددت مظاهره، وتنوعت أسبابه، فهو ليس درجة واحدة، وليس الخلاف في وجود الخالق، كالخلاف في مصاريف الزكاة، وليس الخلاف في عدالة الصحابة، كالخلاف في جلسة الاستراحة.
لقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في عدد من المسائل، لكن الخلاف الذي حصل بينهم، لم يكن خلافا في أصول الدين، وإنما كان خلافا في أحكام فرعية، وجوانب تفصيلية، لا تؤثر في أصل العبادة، ولا تتعارض مع أصول الشريعة. إلا أن وقوعها في ذلك العصر، وبين خير قرن من قرون هذه الأمة، يعتبر دليلا على أن هذا النوع من الخلاف ليس عيبا يجب تلافيه، أو ضررا يجب تفاديه، بل إنه تفاعل طبيعي لهذه العلوم والمعارف، وصورة راقية لتنوع الأفهام، وتباين الآراء.
وهذا النوع من الخلاف هو ما حصل بين الأئمة الأربعة رحمهم الله، إلا أن التعصب المذهبي، وحظوظ الأنفس، حوّلا القضية عند أتباع الأئمة من خلاف فكري إلى اختلاف نفسي وروحي، حتى أبغض بعضهم بعضا، وشتم بعضهم بعضا، وأصبح في المسجد الحرام أربعة منابر، كل يصلي بصلاة إمام مذهبه، وحتى أجاز بعضهم نكاح المرأة من المذهب الآخر قياسا على جواز نكاح الكتابية، وضرب التعصب والتفرق في الأمة حتى فت في عضدها، وأوهن من قوتها، ووصل الحال إلى ما أسوئ ما يمكن أن يصل إليه.
وهذا هو الفرق بين مجتمع الصحابة ومن هم دونهم، وهذه النتيجة البغيضة هي العيب الذي يجب تلافيه، والضرر الذي ينبغي تفاديه، أما نفس الخلاف فلا يمكننا تجاوزه، ولو أمكننا ذلك لكان الصحابة أولى وأقدر.
إن الخلاف بين علماء أهل السنة راجع في أصله إلى سببين:
خلاف في الدليل وخلاف في الدلالة. وليس بعد هذين السببين إلا الهوى، وتحكيم العقول على النصوص
أما الخلاف في الدليل، فهو أن يثبت دليل المسألة المختلف فيها عند عالم ولا يثبت عند الآخر.
وأما الخلاف في الدلالة فهو أن يرى في الدليل ما لم يره الآخر، أو تتعارض عنده دلالة الدليل مع دليل آخر أرجح عنده منه.
وهذا النوع هو ما إليه أجر الزمام وعليه أبني الكلام.
انتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نصر إلى نصر، ورد الله عنه الأحزاب يوم الخندق، وكان من أمر بني قريظة ما دعاهم إليه لؤمهم القديم، وحثهم عليه خبثهم الأصيل، فنقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءوا المسلمين من فوقهم إذ جاءتهم قريش من أسفل منهم، فرد الله كيدهم في نحورهم، وسلط على أنصارهم من المشركين الريح، وبعث في نفوسهم الهزيمة، حتى شكوا في حلفائهم اليهود، وذب بينهم الاختلاف، إلى أن كشفت الغمة، وتفرقت الجموع (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال)
ولما رجع الصحابة من الخندق، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة).
إن الأمر الصادر من المشرّع في هذه القضية واضح وصريح، بل لا مزيد من البيان على هذه الكلمات، فأحدٌ نكرة في سياق النفي، فتعم كل أحد، والعصر صلاة معروفة محددة، وبنو قريظة مكان معروف محدد.
فلماذا اختلف الصحابة في هذا الأمر! فصلى بعضهم في الطريق حين حانت الصلاة، وأخر بعضهم الصلاة إلى أن غربت الشمس، ولم يصلوها حتى وصلوا المكان الذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
إن هذا الاختلاف الذي حصل بين الصحابة، هو صورة مصغرة للخلاف بين مدرستين عظيمتين في الفقه الإسلامي، المدرسة النصية، والمدرسة المقاصدية (إن صح التعبير)؛ وهذا ما جعل النتيجة التي وصل إليها الصحابة مختلفة، مع أن النص صحيح وواضح.
¥