في بيان مذهب مرجئة الفقهاء
المبحث الأول: قولهم في الإيمان:
والمقصود بمرجئة الفقهاء: من نسب إليه الإرجاء من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة رحمهما الله ومن تبعهما.
وقد ذهبوا إلى أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وأخرجوا العمل من مسماه، وزعموا أنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يستثنى منه، مع قولهم إن مرتكب الكبيرة معرض للوعيد، وهو تحت المشيئة، كما هو القول عند أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم. فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم. لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً؛ فإنها لازمة لها. ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم) [64] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn64) .
وحاصل ما عليه مرجئة الفقهاء هو ما يلي:
1 - أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان.
2 - إخراج العمل الظاهر من مسمى الإيمان.
3 - أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص.
4 - أن أهله متساوون في أصله، وأن التفاضل إنما يقع في غير الإيمان.
5 - أنه لا يستثنى فيه.
6 - أما أعمال القلوب، فظاهر كلامهم أنها ليست من الإيمان، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً؛ فإنها لازمة لها.
فحيث أثبتوا التفاضل في أعمال القلوب، دل ذلك على أنها خارجة عن مسمى الإيمان عندهم.
المبحث الثاني: هل الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء حقيقي أم لفظي؟
ومنشأ النزاع في ذلك أن هؤلاء المرجئة، مع قولهم بإخراج العمل من الإيمان، ونفي الزيادة والنقصان عنه، ومنع الاستثناء فيه، إلا أنهم كانوا (مع سائر أهل السنة متفقين على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك. وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة، وتاركها مستحق للذم والعقاب) [65] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn65) .
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلاف بينهم وبين أهل السنة خلاف في الاسم واللفظ دون الحكم، وذهب آخرون إلى أنه خلاف حقيقي في الاسم واللفظ والحكم.
تحقيق قول شيخ الإسلام في هذه المسألة:
والتحقيق في ذلك أن شيخ الإسلام له عبارات متنوعة في تناول هذه المسألة:
1 - فتارة يقول عن الخلاف في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك: إن عامته نزاع لفظي.
2 - وتارة يقول: هذه البدعة أخف البدع فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم [66] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn66).
3- وتارة يشير إلى أن ذلك من بدع الأقوال والأفعال لا العقائد.
وهذه المواضع الثلاثة لا تعارض بينها، فإن فيها إقرار بأن هذا النزاع منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو لفظي وهو الغالب والأكثر.
4 - وتارة يبين شيخ الإسلام رحمه الله أن الخلاف إنما يكون لفظياً مع من أقرّ بأن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، بحيث إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
ومن خلال هذه النقولات يتضح أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى الخلاف لفظياً مع من أقر بالتلازم بين الظاهر والباطن، وأن العمل الظاهر لازم للإيمان الباطن لا ينفك عنه, بحيث إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. وأما من يرى العمل ثمرة تقارن الباطن تارة وتفارقه أخرى، فهذا قائل بقول جهم، والنزاع معه حقيقي بلا ريب.
والحاصل أن إرجاء الفقهاء يحتمل أمرين:
الأول: عدم إثبات التلازم بين الظاهر والباطن، والقائل بهذا خلافه مع أهل السنة خلاف حقيقي جوهري.
¥