وعليه: فكل من والى الكافرين بالمحبة والنصرة، فقد برئ من المؤمنين .. كما أن كل من برئ من الكافرين، فقد والى المؤمنين.
لا مجرد المحبة والبغض، والصداقة والعداوة للدنيا .. فهذه الأمور ليست داخلة في معنى الولاء والبراء.
* * *
4 - متى يكفر الموالي للكافرين؟.
ذلك الحكم متعلق بالفعل ذاته، لا بالفاعل، فالحكم على الفعل أنه كفر لذاته (= عملي)، لا يلزم منه تنزيل هذا الحكم على المعين، إلا بشروط وانتفاء موانع، وهو ما يسمى بإقامة الحجة.
فقد تقدم أن القاعدة والأصل هو: التلازم. لكن هذا التلازم قد يتخلف، فهاهنا استثناء، وهو المانع من تنزيل الحكم على المعين، إذا والى الكافرين بالنصرة؛ إذ قد يتخلف في حقه الأصل والقاعدة، فيكون من أهل الاستثناء لعذر كـ: إكراه، أو جهل، أو تأويل. فلا يتحقق الكفر في حقه إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، كسائر الأعمال الكفرية الظاهرة.
والولاء ذو شقين: باطن هو المحبة، وظاهر هو النصرة. وقد تقدم هذا، والموالي على ثلاثة مراتب:
- الأولى: أن يوالي باطنا وظاهرا. فهذا كفر ظاهر بالاتفاق؛ لأنه ناقض للإيمان بالكلية.
- الثانية: أن يوالي باطنا لا ظاهرا. فهذا كفر باطن بالاتفاق كذلك؛ للعلة ذاتها.
- الثالثة: أن يوالي ظاهرا لا باطنا. فهذا لا يكفر بالقطع، وهو صاحب العذر.
فالأوليتان لا خلاف عليهما، أما الثالثة ففيها نزاع، والصواب: أن الموالاة الظاهرة بالنصرة، إذا لم يقابلها موالاة باطنة، فليست بكفر. وهي حالة استثنائية خلاف القاعدة والأصل متصورة في حالات:
الأولى: حالة الجهل. فإن الجهل المطلق بحقيقة الولاء والبراء، والإسلام والكفر، وما بينهما من تناقض: موجود في أناس لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة وبعض الأعمال، كما في أثر حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
- (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، و لا صدقة. وليسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية. وتبقى طوائف من الناس؛ الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله. فنحن نقولها) قال له صلة: ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لايدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم عليه في الثالثة فقال: يا صلة!، تنجيهم من النار. ثلاثا.
فقد يوقعهم هذا الحال من الجهل في نصرة الكافرين، وهم في بواطنهم خالون من محبة الكفر، يظنون أنهم غير عاصين، وربما من جهلهم أحبوا الكفر كذلك، يظنون أنه لا يتناقض مع الإسلام.
الثانية: حالة الإكراه. فيها يضطر المسلم لنصرة الكافر، إما خشية على نفسه، أو أهله الهلاك، أو ظنا منه أنه يدرء شرا أكبر عن المسلمين. وقصة عمار رضي الله عنه مثال لكفر ظاهر ليس له باطن.
الثالثة: حالة التأول. يظن الموالي أنه لن يضر المسلمين والإسلام بنصرته الكافرين؛ لثقته بقوة المسلمين مثلا، أو ليقينه بضعف المشركين، يفعل ذلك لتحقيق مصلحة دنيوية خاصة به: حفظ ماله، أو أهله، أو نفسه، أو لزوجه الكتابية، أو عشيرته الكتابية. وهذا ظاهر في قصة حاطب.
فالحالة الأولى والثالثة يفعلها طوعا، والثانية كرها، والإكراه عذر متفق عليه، فيبقى اثنان يقع النزاع فيهما، عند من لم ير في الجهل عذرا، وعند من لم ير طلب المصلحة الدنيوية عذرا يدفع الكفر.
والنصوص تبين: أن الله تعالى لا يؤاخذ من لم تقم عليه الحجة. كقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء 15]، فالأصول الشرعية تأبى المؤاخذة مع الجهل، وهذا مقتضى رحمة الله تعالى.
وقصة حاطب تبين: أن نصرة الكافر لغرض دنيوي، لا للدين، ليس بكفر، مع كون العمل كفرا في أصله، لكن كونه للدنيا لا للدين، صرفه عن الكفر.
لكن هاهنا تفصيل مهم؛ هما حالتان يضطر الباحث أن يتوقف عندهما، في حالة النصرة لغرض دنيوي، هما:
- الأولى: النصرة لغرض دنيوي، لكن بشكل مطلق، فيكون ديدنا وعادة.
- الثانية: النصرة لغرض دنيوي، مع العلم بأنها تجلب الضرر البالغ على المؤمنين في دينهم، كاحتلال بلادهم، وهوان الإسلام والمسلمين.
في هاتين الحالتين:
هل يتصور أن تخلو هذه الموالاة الظاهرة (= النصرة) من موالاة باطنة (= محبة)؟!.
¥