فالجواب: لكنه غير مبالٍ بالإسلام، ولا يهمه في شيء. وهذا وجه آخر للكفر، فإن هذا أقرب إلى الاعتقاد بوحدة الأديان، فلا يبالي بالإسلام حكم أو غيره، وهذه نتيجة لتلك العقيدة، التي تساوي بين الأديان، وهذا كفر بلا ريب.
ولو اعتقد فضل الإسلام، مع جواز الحكم بغير الإسلام، فهو كافر كذلك.
هذه الإيرادات والمناقشات هي مرحلة تالية لثبوت أن ذنب النصرة كفر عملي، فحين يثبت هذا على أحد من الناس، فإنه يناقش فيها، لتقام عليه الحجة. ففي هذه المسائل إثبات أنه لا يفعل هذا إلا من كان صدره منشرحا بالكفر، بمحبة دين الكافرين.
فأما حاطب فإنه لم يكفر مع نصرته للكافرين لأمرين:
- الأول: أن غرضه الدنيا، وليس في قلبه محبة الكفر. صرح بهذا، فصدقه النبي عليه الصلاة والسلام.
- الثاني: أنه لم يظن أنه يجلب الضرر المسلمين بنصرته، لما رأى من كثرتهم، ولتيقنه أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فرأى أن رسالته تنفع في حفظ ماله، ولن تضر المسلمين، ودليل هذا:
- أولا: ما جاء في رسالته، في بعض الروايات، ما يشير إلى قوة المسلمين، وضعف المشركين عن مقاومتهم، فقد كانت تخويفا وإضعافا لمعنويات المشركين.
- ثانيا: فإن طعن في صحة تلك الروايات التاريخية، فهل يدعي مدع: أن حاطبا قصد الإضرار بالدين والنبي والمسلمين.؟!.
هذا غير لائق به، كونه من السابقين، ومن أهل بدر، فلا يظن به أنه يفعل النصرة وهو على علم ويقين بضرر يجلبه على المسلمين، لا يفعل ذلك إلا منافق، وهو قد برئ من النفاق، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المقام لا بد من التفريق بين اعتقاد وظن حاطب، والواقع.
فالواقع تقديره: أن إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم خطر كبير؛ لأنه قد يفضي إلى النيل منه عليه الصلاة والسلام بالقتل ونحوه. وليس شيء أعظم من هذا.
لكن هذا التقدير لا يلزم أن يكون في ذهن حاطب، بل من الممكن أن يكون تقديره عكس ذلك تماما. فكم من أناس يفعلون أمورا كبيرة، وهم يظنونها صغيرة، والحكم ما دام متعلقا بالشخص نفسه، فيكون تقديره هو الضابط في الحكم عليه بالكفر أو بما دونه، لا تقدير الواقع.
* * *
لقد كانت نتيجة هذه الدراسة الواضحة:
1 - أن الولاء ذو شقين: اعتقادي هو المحبة، وعملي هو النصرة.
2 - أن الولاء بالنصرة من الكفر العملي، والولاء بالمحبة من الكفر الاعتقادي.
3 - أن الولاء منه ما هو للدين، وهو كفر بالإجماع، وولاء تمحض للدنيا ليس بكفر.
4 - أنه ثمة أنواع من النصرة، ظاهرها للدنيا، لكن لا يتصور إلا من موالي لدين الكافرين، مثل: النصرة المطلقة، والنصرة البالغة؛ التي تجلب على المسلمين الهوان، بعلم، وقصد، واختيار. من وجهين:
- أن هذه الحالات دالة على ولاء القلب؛ إذ لا يجتمع في قلب إنسان، حب الله ورسوله، ونية وقصد الإضرار بالإسلام، والمعاونة على هزيمته في كل موقع وموطن، حتى لو كان بالاحتلال، وعلو الكفر على الإسلام.
- أن الله تعالى حكى من أسباب كفر الكافرين: استحبابهم الدنيا على الآخرة. والموالي بهذا النوع هو مستحب للدنيا بلا ريب.
5 - أن الولاء العملي (=النصرة) لا بد له من أساس اعتقادي (= محبة دين الكافرين)، والعكس: أن الولاء الاعتقادي له ثمر وأثر ظاهر، هو الولاء العملي، ولا بد، ولا يتخلف هذا القانون إلا لعارض كالجهل، والتأول، والإكراه، والخوف.
6 - أنه لا يلزم من كون النصرة كفرا عمليا: تكفير الموالي بالنصرة مطلقا. بل هي كسائر الذنوب العملية الكفرية، كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى ونحوه، لا يقع الكفر إلا بإقامة الحجة.
والمخالفون في هذه المسألة:
- وافقوا على النقطة الأولى (1)، وبعضهم تكلف الدعوى، فجعل النصرة عملا قلبيا .. مع ظهور محلها على الجوارح.!!.
- وخالفوا في الثانية (2)؛ إذ جعلوا النصرة كبيرة بإطلاق، ليس منها ما هو كفر لذاته (= عملي)، مع موافقتهم على أن الولاء بالمحبة لدين الكافرين من الكفر الاعتقادي.
- كما وافقوا على تقسيم الولاء للدين والدنيا (3)، لكنهم خالفوا في دعواهم: أن كل حالات الولاء للدنيا فليست بكفر، مهما كانت صورها، حتى لو كانت مطلقة، أو جلبت الوبال على الإسلام والمسلمين بعلم، وقصد، واختيار!!، فقد تصوروا إمكانية النصرة في هذه الصور لمجرد طلب الدنيا، دون أن يكون حبا ورضا عن دين الكافرين.
¥