وقال الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه: لا يفلح صاحبُ الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً ينظرُ في الكلام إلا وفي قلبه مرضٌ.
وبالغ في ذمِّه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه لتصنيفه كتاباً في الردِّ على المبتدعة وقال له: ويحكَ! ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟ ألستَ تحملُ الناس بتصنيفك على مطالعة كلام أهل البدعة، والتفكُّر في تلك الشبهات، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث!.
وقال أيضاً: علماءُ الكلام زنادقة.
وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: لا تجوز شهادةُ أهل البدعِ والأهواء.
قال بعضُ أصحابِهِ: أراد بأهل الأهواء أهلَ الكلام على أي مذهبٍ كانُوا.
وقدِ اتَّفَق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصرُ ما نقل عنهم من التشديدات فيه " ا. هـ كلامه بلفظه.
وفي ترجمةِ الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه لعبد الحليم الجندي ما نصُّه: " قال أبو حنيفة: كنتُ أظنُّ أن علم َالكلام أجلُّ العلوم، فلما مضت مدّةٌ من عُمُري تفكرت وقلتُ: السلف كانو أعلمَ بالحقائقِ، ولم ينتصبوا مجادلين، وخاضُوا في علم الشريعة ورغبوا فيه، وعلمُوا وتعلموا وتناظرُوا عليه، فتركتُ الكلام واشتغلتُ بالفقه، ورأيتُ المشتغلينَ بالكلام ليس سيماهم سيماء الصالحين، قاسيةٌ قلوبهم، غليظةٌ أفئدتُهُم ". ا. هـ من تلك الترجمة باللفظ، ورواه العلامة أحمد أمين في الجزء الثاني من كتابه «ضحى الإسلام» ولفظُهُ عنده: " كنتُ أعدُّ الكلام أفضلَ العلوم، ثم علمتُ أنَّهُ لو كان فيه خير لتعاطاه السلف الصَّالحُ، فهجرتُهُ ".
وفي الجزء الثالث من «أخبارِ القضاة» لوكيع بن خلف في ترجمة القاضي أبي يوسف يعقوبَ بنِ إبراهيمَ الأنصاريُّ صاحبِ أبي حنيفة ما نصه: قال أبُو يوسف: العلم بالكلام جهل، ومن طلب العلم به تزندقَ، ومن طلب المال بالكيمياء أفتقَرَ، ومن طلب الحديث بالغرائب كذَبَ " ا. هـ منه بلفظه.
وقال الحافظُ شرفُ الدِّين عبد المومن بن خلف الدُّيمياطيُّ المتوفى سنة خمس وسبعمائة رحمه الله تعالى:
وما العلم إلا في كتابٍ وسنَّةٍ
وما الجهل إلا في كلام ومنطقِ
وما الخير إلا في سكوتٍ بحسبةٍ
وما الشَّرُّ إلا في كلامٍ ومنطقِ
وقال الحافظ ابنُ حَجَر في كتاب التَّوحيدِ من «فتحِ الباري» ما نصه: صَحَّ عن السلفِ أنهم نَهَوا عن علمِ الكلامِ، وعَدُّوهُ ذريعةً للشَّكِّ والارتيابِ، وَقَدْ قَطَعَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ بِأَنَّ الصَّحَابَة لَمْ يَخُوضُوا فِي الْجَوْهَر وَالْعَرَض وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ مَبَاحِث الْمُتَكَلِّمِينَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ طَرِيقهمْ فَكَفَاهُ ضَلَالًا، وَأَفْضَى الْكَلَام بِكَثِيرٍ مِنْ أَهْله إِلَى الشَّكِّ، وَبِبَعْضِِهِمْ إِلَى الْإِلْحَاد وَبِبَعْضِِهِمْ إِلَى التَّهَاوُن بِوَظَائِف الْعِبَادَات، وَسَبَبُ ذَلِكَ إِعْرَاضهمْ عَنْ نُصُوص الشَّارِعِ وَتَطَلُّبهمْ حَقَائِق الْأُمُور مِنْ غَيْره، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْعَقْلِ مَا يُدْرِكُ مَا فِي نُصُوص الشَّارِع مِنْ الْحِكَم الَّتِي اِسْتَأْثَرَ بِهَا، وَقَدْ رَجَعَ كَثِير مِنْ أَئِمَّتهمْ عَنْ طَرِيقهمْ ".
قال القرطبي – وهو الإمام أبو العبَّاس أحمد بن عمر بن إبراهيم شارح «صحيح مسلم» المتوفى سنة ستٍّ وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى: " وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ إِلَّا مَسْأَلَتَانِ هُمَا مِنْ مَبَادِئِهِ لَكَانَ حَقِيقًا بِالذَّمِّ:
إِحْدَاهُمَا: قَوْلُ بَعْضهمْ إِنَّ أَوَّل وَاجِب الشَّكّ، إِذْ هُوَ اللَّازِم عَنْ وُجُوب النَّظَر أَوْ الْقَصْد إِلَى النَّظَر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ إِمَام الحرمين بِقَوْلِهِ: " رَكِبْتُ الْبَحْر الأعظم ".
ثَانِيَتُهمَا: قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُم: إِنَّ مَنْ لَمْ يَعرِفِ اللَّهَ بِالطُّرُقِ الَّتِي رَتَّبُوهَا وَالْأَبْحَاثِ الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحّ إِيمَانُهُ، حَتَّى لَقَدْ أُورِدَ عَلَى بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا يَلْزَم مِنْهُ تَكْفِير أَبِيك وَأَسْلَافك وَجِيرَانك!. فَقَالَ لَا تُشَنِّعُ عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْلِ النَّارِ.
¥