فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح حتى راجت على من يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار ,وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة فى المنطق والطبيعيات والإلهيات ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببا إلى ضلالهم فى مطالب عالية إيمانية ومقاصد سامية قرآنية خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان وصاروا بها فى كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون بل يسفسطون فى العقليات ويقرمطون فى السمعيات.
مجموع الفتاوى (9
136)
وقال: وهو أن نقول هب أن صورة القياس المنطقي ومادته تفيد علوما كلية لكن من أين يعلم أن العلم الكلي لا ينال حتى يقول هؤلاء المتكلفون القافون ما ليس لهم به علم هم ومن قلدهم من أهل الملل وعلمائهم إن ما ليس ببديهي من التصورات والتصديقات لا يعلم إلا بالحد والقياس وعدم العلم ليس علما بالعدم؛فالقائل لذلك لم يمتحن أحوال نفسه ولو امتحن أحوال نفسه لوجد له علوما كلية بدون القياس المنطقي وتصورات كثيرة بدون الحد وإن علم ذلك من نفسه أو بني جنسه فمن أين له أن جميع بني آدم مع تفاوت فطرهم وعلومهم ومواهب الحق لهم هم بمنزلته وأن الله لا يمنح أحدا علما إلا بقياس منطقي ينعقد في نفسه حتى يزعم هؤلاء أن الأنبياء كانوا كذلك بل صعدوا إلى رب العالمين وزعموا أن علمه بأمور خلقه إنما هو بواسطة القياس المنطقي وليس معهم بهذا النفي الذي لم يحيطوا بعلمه من حجة إلاعدم العلم فيدعون العلم ,وقد تكلموا بهذه القضية الكلية السالبة التي تعم ما لا يحصى عددها إلا الله بلا علم لهم بها أصلا.
مجموع الفتاوى (9
79)
وقال: إن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة أيضا وأمثالها؛فإن أدخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ,ولم يبق لهم ضابط ,وقد ذكر ابن سينا وأتباعه أن القضايا الواجب قبولها التى هي مادة البرهان الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ,ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه ,وإذا كان كذلك لم يلزم أن كل ما لم يدخل فى قياسهم لا يكون معلوما وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ؛فإنه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذا الطريق لم يمكن وزنها بهذه الأدلة.
وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم ,وهذا فى غاية الجهل لاسيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء.
فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل إلى معرفته بطريقهم لزم أمران
أحدهما: أن لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس فى قياسهم دليل عليه.
و الثانى: أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة.
مجموع الفتاوى (9
247)
وقال: إنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما, وما هو باطل وليس بعلم يجعلونه علما فزعموا ما جاءت به الأنبياء فى معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له فى الواقع ,وأنهم إنما أخبروا الجمهور بما يتخيلونه فى ذلك لينتفعوا به فى إقامة مصلحة دنياهم لا يعرفوا بذلك الحق ,وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس ويقولون أن النبى حاذق بالشرائع العملية دون العلمية ,ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبى وعلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ولا يوجبون اتباع نبى بعينه لا محمد ولا غيره ,ولهذا لما ظهرت التتار وأراد بعضهم الدخول فى الإسلام قيل إن هولاكو أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل قال:ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته.
ومن تبع النبى منهم فى الشرائع العملية لا يتبعه فى أصول الدين والاعتقاد بل النبى عندهم بمنزلة أحد الإئمة الأربعة عند المتكلين؛فإن أئمة الكلام إذا قلدوا مذهبا من المذاهب الأربعة اقتصروا في تقليده على القضايا الفقهية ولا يلتزمون موافقته فى الأصول ومسائل التوحيد بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم فى ذلك.
وقد أخبر النبى عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار ,وليس فى ذلك شيء من ذلك بقياسهم ,وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون ,وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره؛فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورا كلية ,وهذه أمور خاصة ,وقد أخبر بما يكون من الحوادث المعينة حتى أخبر عن التتر الذين جاءوا بعد ستمائة سنة من إخباره وكذلك عن النار التى خرجت قبل مجيء التتر سنة خمس وخمسين وستمائةهـ فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمى معين أو أمة معينة فضلا عن موصوف بالصفات التى ذكرها ثم من بلاياهم وكفرياتهم أنهم قالوا إن الباري تعالى لا يعلم الجزئيات ولا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما ولا شيئا من تفاصيل الحوادث والكلام والرد عليهم فى ذلك مبسوط فى موضعه.
والمقصود أن يعرف الانسان أنهم يقولون من الجهل والكفر ما هو فى غاية الضلال فرارا من لازم ليس قط دليل على نفيه.
مجموع الفتاوى (9
249)
يتبع
¥