لا ,ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان.
فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة ,وحينئذ فيتصور الطرفين تصورا تاما بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوزم التي لا تتبين لمن لم يتصوره ,وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض أمر بين؛فإن كثيرا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة ,وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدال ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره ,ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غنى عنها حتى يضرب له أمثالا.
مجموع الفتاوى (9
103) والرد على المنطقيين (68)
وقال أيضا: قولهم إن شيئا من التصديقات المطلوبة لاتنال إلا بما ذكروه من القياس؛فإن هذا النفي العام أمر لا سبيل إلى العلم به ولا يقوم عليه دليل أصلا مع أنه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس كما تحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد بخلاف هذا المقام الرابع؛ فإن كون القياس المؤلف من المقدمتين يفيد النتيجة هو أمر صحيح فى نفسه.
لكن الذى بينه نظار السلمين فى كلامهم على هذا المنطق اليونانى المنسوب إلى أرسطو أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية بل كل ما يمكن علمه بقياسهم يمكن علمه بدون قياسهم؛فلم يكن فى قياسهم ما يحصل العلم بالمجهول الذى لا يعلم بدونه ,ولا حاجة إلى ما يمكن العلم بدونه؛فصار عديم التأثير فى العلم وجودا وعدما وفيه تطويل كثير متعب فهو مع أنه لا ينفع فى العلم فيه إتعاب الأذهان وتضييع الزمان وكثرة الهذيان والمطل من الأدلة والبراهين بيان العلم وبيان الطرق المؤدية الى العلم.
ولهذا حكي من كان حاضرا عند موت إمام المنطقيين فى زمانه الخونجي أنه قال عند موته أموت ولاأعلم شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف سلبى أموت وما علمت شيئا.
فهذا حالهم إذا كان منتهي أحدهم الجهل البسيط ,وأما من كان منتهاه الجهل المركب فكثير والواصل منهم إلى علم يشبهونه بمن قيل له أين أذنك فأدار يده على رأسه ومدها إلى أذنه بكلفة وقد كان يمكنه أن يوصلها إلى أذنه من تحت رأسه وهو أقرب وأسهل.
والأمور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية كان تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها كما لو قيل الرجل اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية؛فإن هذا ممكن بلا كلفة؛ فلو قال له قائل اصبر فإنه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها وتميز بينها وبين الضرب؛فإن القسمة عكس الضرب فإن الضرب هو تضعيف آحاد أحد العدد بآحاد العدد الآخر ,ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة فى المقسوم عليه عاد المقسوم وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر ثم يقال ما ذكرته فى حد الضرب لا يصح؛فإنه إنما يتناول ضرب العدد الصحيح دون المكسور بل الحد الجامع لهما أن يقال الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى أحد المضروبين كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر؛فإذا قيل اضرب النصف فى الربع فالخارج هو الثمن ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد؛فهذا وإن كان كلاما صحيحا لمن من المعلوم أن معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزمه نفسه أن لا يقسمه حتى يتصور هذا كله كان هذا تعذيبا له بلا فائدة وقد لا يفهم هذا الكلام وقد تعرض له فيه إشكالات.
مجموع الفتاوى (9
209)
الثاني:من صور القياس ما تكون فطرية
قال:لا نزاع أن المقدمتين إذا كانتا معلومتين وألفتا على الوجه المعتدل أنه يفيد العلم بالنتيجة ,وقد جاء فى صحيح مسلم مرفوعا: كل مسكر خمر وكل خمر حرام. لكن هذا لم يذكره النبى صلى اله عليه وسلم ليستدل به على منازع ينازعه بل التركيب فى هذا كما قال أيضا فى الصحيح: كل مسكر خمر وكل خمر حرام.
أراد ان يبين لهم أن جميع المسكرات داخلة فى مسمى الخمر الذى حرمه الله فهو بيان لمعنى الخمر ,وهم قد علموا أن الله حرم الخمر ,وكانوا يسألونه عن أشربة من عصير العنب كما فى الصحيحين عن أبى موسى أنه سئل عن شراب يصنع من الذرة يسمى المزر وشراب يصنع من العسل يسمى البتع ,وكان قد أوتى جوامع الكلم فقال: كل مسكر حرام.
¥