إذ الحس الباطن والظاهر لا يدرك إلا أمورا معينة لا تكون إلا إذا كان المخبر أدرك ما أخبر به بالحس فهى تبع للحسيات.
وكذلك التجربة إنما تقع على أمور معينة محسوسة وإنما يحكم العقل على النظائر بالتشبيه وهو قياس التمثيل.
والحدسيات عند من يثبتها منهم من جنس التجريبات
لكن الفرق أن التجربة تتعلق بفعل المجرب كالأطعمة والأشربه والأدوية ,والحدس يتعلق بغير فعل كاختلاف اشكال القمر عند اختلاف مقابلته للشمس وهو فى الحقيقة تجربة علمية بلا عمل؛فالمستفاد به أيضا أمورا معينة جزئية لا تصير عامة إلا بواسطة قياس التمثيل.
وأما البديهيات وهى العلوم الأولية التى يجعلها الله فى النفوس ابتداء بلا واسطة مثل الحساب ,وهى كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين؛فإنها لا تفيد العلم بشىء معين موجود فى الخارج مثل الحكم على العدد المطلق والمقدار المطلق وكالعلم بأن الأشياء المساوية لشىء واحد هى متساوية فى أنفسها؛فإنك إذا حكمت على موجود فى الخارج لم يكن إلا بواسطة الحس مثل العقل؛فإن العقل إنما هو عقل ما علمته بالإحساس الباطن أو الظاهر بعقل المعانى العامة أو الخاصة.
فأما أن العقل الذى هو عقل الأمور العامة التى أفرادها موجوده فى الخارج يحصل بغير حس فهذا لا يتصور ,وإذا رجع الانسان إلى نفسه وجد أنه لا يعقل ذلك مستغنيا عن الحس الباطن والظاهر لكليات مقدرة فى نفسه مثل الواحد
والاثنين والمستقيم والمنحنى والمثلث والمربع والواجب والممكن والممتنع ونحو ذلك مما يفرضه هو ويقدره؛فأما العلم بمطابقة ذلك المقدر للموجود فى الخارج والعلم بالحقائق الخارجية فلابد فيه من الحس الباطن أو الظاهر؛فإذا اجتمع الحس والعقل كاجتماع البصر والعقل أمكن أن يدرك الحقائق الموجودة المعينة ويعقل حكمها العام الذى يندرج فيه أمثالها لا أضداها ويعلم الجمع والفرق وهذا هو اعتبار العقل وقياسه.
وإذا انفرد الإحساس الباطن أو الظاهر أدرك وجود الموجود المعين ,وإذا انفرد المعقول المجرد علم الكليات المقدرة فيه التى قد يكون لها وجود فى الخارج ,وقد لا يكون ,ولا يعلم وجود أعيانها وعدم وجود أعيانها إلا بإحساس باطن أو ظاهر.
مثال ذلك:
أنك إذا قلت: موجود أن المائة عشر الألف لم تحكم على شىء فى الخارج () بل لو لم يكن فى العالم ما يعد بالمائة والألف لكنت عالما بأن المائة المقدرة فى عقلك عشرالألف ,ولكن إذا أحسست بالرجال والدواب والذهب والفضة ,وأحسست بحسك أو بخبر من أحس أن هناك مائة رجل أودرهم وهناك ألف ونحو ذلك حكمت على أحد المعدودين بأنه عشر الآخر؛فأما المعدوات فلا تدرك إلا بالحس والعدد المجرد يعقل بالقلب ويعقل القلب والحس يعلم العدد والمعدود جميعا وكذلك المقادير الهندسية هى من هذا الباب فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا فى المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا فى الأمور الخارجية الموجودة.
فإذا كانت مواد القياس البرهانى لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة ليست كلية وهى الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس والذى يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا مقدرة ذهنية لم يكن فى مبادىء البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة فى الخارج ,والقياس لا يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية؛فامتنع حينئذ أن يكون فيما ذكروه من صورة القياس ومادته حصول علم يقينى ,وهذا بين لمن تأمله وبتحريره وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف.
مجموع الفتاوى (9
73)
وقال أيضا: إن المواد اليقينية قد حصروها فى الأصناف المعروفة عندهم
أحدها: الحسيات ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرا كليا عاما أصلا؛فليس فى الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة فى البرهان اليقينى ,وإذا مثلوا ذلك بأن النار تحرق ونحو ذلك لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية وإنما معهم التجربة والعادة التى هي من جنس قياس التمثيل ,وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة؛فالعلم بأن كل نار لا بد فيها من هذه القوة هو أيضا حكم كلي ,وإن قيل أن الصورة النارية لا بد أن تشتمل على هذه القوة وإن ما لا قوة فيه ليس بنار فهذا الكلام إن صح لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة يحرق ما لا قاه ,وإن كان هذا هو الغالب؛فهذا يشترك فيه قياس التمثيل والشمول والعادة والاستقراء
¥