فائدة: غمصُ نعمة الله: بمعنى كفرها، وغمصتَ الرجل: بمعنى طعنتَ فيه وعِبتَه. وحقيقة اللفظ أنه داء يصيب العين، وكذلك الرَّمَص اللَّحَح واللَّخَص، وغمط وغمص وغمز تتقارب معانيها وتترادف.
فائدة أخرى: ومن جنس قياس الشبه الصوري أنه حَكَم للظبية بشاة، لقوله تعالى: "فجزاء مثل ما قتل من النعم"، والشاة مشترك بين الضأن والماعز، والعرب تلحق الظباء بالماعز والأبقار بالضأن، فيحتمل أنه أراد بالشاة الماعز.
فائدة ثالثة: قدّم عمر حُكم عبد الرحمن حتى يكون حكم الإمام قاطعا، قاله المبرّد.
ورابعة: طريقة عمر في الحكم الأخذ بالقوة والعزيمة؛ فلم تلُح بوادر الخروج عن الإمام في زمنه لشدته في الحق وقمع المتنطع (كما في قصة صبيغ)؛ وبهذا تعرف أن علاجَ داء الخوارج يكون بالشدة كطريقة الفاروق ابن الخطاب والإمام علي والأمير عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي القرشي، أو المجادلة بالتي هي أحسن كفعل الشهيد عثمان بن عفان والراشد عمر بن العزيز رضي الله عنهم.
هذا بالنسبة للحكام، أما العلماء فقد كانوا تُجاهم أنواعا:
- الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كمسألة ابن عباس حين ذهب إليهم.
- هجرانهم وترك كلامهم وسلامهم، كما فعل بعض السلف مع صبيغ في العراق.
- ذكرهم بما هم عليه، وإشاعة أمرهم حتى تجتنبهم الناس وتحذرهم.
- لا يرثون ولا يورثون، ولا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، ولا يشهد جنائزهم، ولا يعاد مرضاهم، ويترك مناكحتهم، وهذا من باب الزجر والتأديب وكله يرجع إلى الهجران.
- تجريحهم على الجملة؛ بأن لا تقبل شهادتهم ولا روايتهم، ولا يكونون ولاة ولا قضاة، ولا ينصبون مناصب العدالة كالإمامة والخطابة، وهذا كله من باب الزجر.
وخامسة: وبهذا تعلم أن الصفات المتضادّة المذكورة في الحديث تكون بحسب البيئة؛ فإذا كانت شديدة قوية ألجمتهم وكبتت مساوئهم، وظهر منهم صفات الضعف والنفاق كالكذب، وإذا كانت متفرقة مهلهلة أظهرت قرنهم وخبَثَهم، وفي الحديث: "تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من الناس" فكأنه رتّب انمراقهم - إيماءً - على فرقة الناس وعلى ضعفهم.
وهو كذلك؛ خرجوا حين فرقةِ المسلمين أيام علي ومعاوية، وخرجوا بالعراق مع نافع بن الأزرق وباليمامة مع نجدة بن عامر بعدما مات يزيد بن معاوية ووقع الافتراق في الأمة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم ...
وسادسة: فإذا سلّمنا بالفائدة السابقة كمقدمة أنتجت – إشارةً – أن ندْبَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتالَ البغاة المارقين فيه حُكمٌ كوني وحكمةُ لمِّ الشمل وتوحيد الصف تُجاه الخصم الواحد، والاجتماع مقصد شرعي ثابت لا محيد عنه، مثاله في حديثٍ رواه الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج (وهو من أجمع وأفضل ما صُنف فيهم): حدثني سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: أقبل رجلان من أهل الحجاز حتى قدما العراق فقيل لهما ما أقدمكما العراق؟ قالا: رجونا أن ندرك هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فوجدنا علي بن أبي طالب قد سبقنا إليهم – يعنيان أهل النَّهروان –
فهذان الصحابيان يظهر أنهما قعدا عن اقتتال معاوية وعلي كحال سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر وغيرهم، لكن قاموا إلى الخليفة الحق لما سمعوا بخروج المارقة، وكذلك يفعل كل من يسمع بما وعدَ الله عز وجل من الثواب لمقاتلهم.
وسابعة: من الفوائد الفرائد أن الحكم الشرعي قد يذهل عنه أولي العقول، ويعمى عليه ذوي البصائر، مع أنه واضح للعيان جلي، نص عند التنازع قوي؛ فالأمر بالجماعة جاء فيه ثمانية وخمسون حديثا، وعدد وافر من الآيات، لكن افترق الناس بعد نازلة استشهاد عثمان إلى ثلاث: الاقتصاص من القتلة الفجرة، الاجتماع إلى الخليفة، التوقف حتى تنام الفتنة.
فلما مرقت الخوراج، اجتمع الناس لقتالهم وصدّ فسادهم، فارتفع عنهم إثم التفرق بسبب التزامهم سنة نبيهم؛ أدَّوا واجبَ قتالِ البغاة، فأدى الله عز وجل عنهم واجب الاجتماع، وهذا الأخير هو حقيقة الحكم الكوني.
¥