أَمِن آل نُعم أنت غادٍ فمُبكرُ ... غَداةَ غدٍ أم رائحٌ فمُهَجِّر!
بحاجة نفسٍ لم تقُل في جوابها ... فتُبلِغُ عُذراً والمقالةُ تُعذِر
تَهِيم إلى نُعْم فلا الشَّمْلُ جامعٌ ... ولا الحبلُ موصولُ ولا القلب مقصرُ
حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، قال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأتْ رجلاً أمَّا إذا الشمسُ عارضتْ ... فيَخْزى وأمَّا بالعشِيِّ فَيَخْسرُ
فقال: ما هكذا قال، إنما قال: "فيَضْحى وأما بالعشي فيَخْصر" قال: أوَ تحفظ الذي قال؟ قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها.
وروى الزُّبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط، فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي. اهـ
تعاليق على هذه الأخبار:
في هذه الأخبار دلالات على مدى تنطع نافعٍ بن الأزرق، وكيف تنبأ به أبو الجلد أن يكون خارجيا لما رأى من تعمقه وتوغله، وكيف كان نافعٌ هذا قبيحَ المجلس بكثرة مسائله واعتراضاته، ولو كانت بالأدب المفروضِ لحسُنت له وحُمدت إليه، لكن لما تمادى إلى القِحة والطَّعن حُملت عليه إساءةً وكراهة، فانظر إلى قوله لحبر الأمة: "قف يا وقاف"! لَعُمري ما يقولها إلا من رأى منزلته علت منزلة شيخه، وانظر كيف استنكر على شيخه التغني بالشعر والترنم لسماعه، وما هذا إلا لفرط جهله بالمُلَح وأنها الحاملة على عُقَد العلم، وانظر إليه كيف يتعجب لحفظ ابن عباس وما هذا إلا لشدة ذهوله وغفلته، أليس جفاة الأعراب وأجلافهم أحفظَ الناس وأسرعهم بديهة ومع ذلك فهم أشد الناس كفرا ونفاقا، أعني أنه لا يُفضَّل المرء لحفظه مجردا، لكن إذا قارن الحفظَ العملُ والإخلاص.
هذا كله أبان عن مكانة ابن عباس السامقة، ورتبته الباسقة، ولله در الشاعر:
وإذا أراد الله بسط فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
وكيف أن ابن عباس جبلُ علْمٍ، وكيف أنه أكثر الناس تواضعا وأهشهم لطالب العلم، وكيف أنه كريم النفس طيب الأصل، وكيف أنزل نفسه قدرها لرواية عمر ولعِلم علي، وكيف أنه الربّاني البصير المربي الحكيم يطلب الشعر ترويحا على النفس، وتقوية للعارضة، وزيادة في الحفظ، وتجويدا للسان، وتصويبا للعقل.
العلم ملح وعقد:
لا زال العلماء يعقدون المجالس والأبواب للمُلح كابن شهاب الزهري، كان إذا أعطى الدرس في الحديث قال: هاتوا من ملحكم وأشعاركم، وعبد الله بن المبارك الذي قال: شغلنا أنفسنا بالباطل حتى تشتغل بالحق (وأراد بالباطل المباح)، وابن عبد البر المالكي صاحب "التمهيد" و"الاستذكار" صنف "بهجة المجالس" في الأخبار والشعر، شبيه بجمهرة العرب لابن عبد ربه ...
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود: ((كان النبي يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا)).
والملح أدب وشعر وتاريخ وتراجم وأخبار وقصص وغيرها، والأخذ منها يكون بقدر ما تنشرح منه النفس وتنشط للعُقَد، كل هذا معلومٌ غيرُ خفي على أهل العلم الحاذقين.
لكن ذاك العَكِس العَكِص غفل عن هذا الباب، وراح يلوم سيده ويقبح فعله، فلم يلبث أن غلبته شِقوته فصار رأسا من رؤوس الضلال بل من أشدّهم وأحدّهم، وروى المبرّد أنه هو وأصحابه من أخلى البصرة عن سكانها بعدما أنهكهم بالقتل والسفك والفتك، وعنه تفرقت باقي الخوارج كالإباضية والصفرية، وصدق العزيز الحكيم حين يقول: ?ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك?.
لكن التعمق والشدة والمبالغة إنما تذم إذا كانت في غير محلها؛ لأن التعمق في مظانه فِقْه، والشدة عند محلها حزم، والمبالغة على موضعها ورع، فلا بأس أن نضرب مُثلا لهاته الدقائق عسى أن ينفع الله بها القوم، هو الهادي لا إله غيره.
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[11 - 03 - 09, 06:32 م]ـ
فرقُ ما بين الشدة والتعمق من جهة، والورع والفقه من جهة أخرى:
هذا المبحث يجمع بين فقه اللغة والأخلاق: الأول يضع الألفاظ في مواضعها الصحيحة مراعيا حقيقة اللفظ اللغوية والعرفية والشرعية؛ والثاني يضع لشتات الأخلاق وفروع السِّير أصولا ترجع إليها حتى يُتمكن من ضبطها وتمهيدها.
¥